أحمد السري وروايته العمائم الليلكية (2-2)

شَبابة الفتى شعيب هي النبع العميق للسرد الدافق على مدى 231 صفحة. الشبابة -كرمز للحب والتفتح والجمال، والتعبير عن السمو الروحي والرقي الأخلاقي والإبداعي- هي ما جذب ميكا الفتاة الجميلة والأنيقة الآتية من السماء إلى بيئة شديدة التخلف والتبدي والانغلاق. فالشبابة نافذة -أو بالأحرى- بوابة كبرى للتعبير عن الحياة الجديدة، والانفتاح على العصر، وجذب أفنان الجمال، وقيم الحداثة والتجديد.

بوجود الشاب شعيب بن يمان الهلالي عازف الشبابة، والفتاة الجميلة ميكا ابنة السماء، في البيئة المغلقة المحكومة بالملك الذي يتبرك الفلاحون والمواطنون الأبرياء بتدينه الزائف، وقداسته الخادعة، ومظاهره الكاذبة، تبرز ألوان عديدة من الإغراء والغواية. اللقب شوكة الدين لابن الملك يعطي المعنى الموهم والملتبس. فشوكة في المعنى المباشر والحرفي تعني الإبرة في بعض الأشجار والنباتات، ومنه أتى المعنى المعرفي معنى القوة والغلبة، فيبقى المعنى الأصلي -المسمار- حاضر بقوة أيضًا. فالإبرة الحادة التي تدمي الأقدام، وتعيق السير هي الحقيقة الأصلية. 

وشوكة الدين الحكم في البلدان الإسلامية، وبخاصة في اليمن والمنطقة العربية، ولا معنى لها غير الطغيان والسلب والنهب، واسترقاق البلاد والعباد باسم الدين.

فطاعة ولي الأمر هي طاعة الله، والحاكم مطلق الصلاحيات، وفوق المساءلة (لا يُسأل عما يفعل). فالملك يفد باستمرار على مدينة المرجان لجباية الضرائب، وأخذ الهدايا، ونهب الأموال. في البدء يتخذ سمة الولاية والصلاح، ويأتي المدينة للاستجمام والتشافي. 

يدرس أحوال المدينة وريفها والعوائد والفوائد، ويعرف كل شيء عن أحوال الناس وحاصلاتهم، ويتولى خطيب المسجد دعوة الناس إلى التبرك بالسيد صاحب الحسب والنسب، ويحثهم على التماس البركات برفده بكل ما يرغب فيه. 

يخلفه ابنه شوكة الدين، ويوغل أكثر فأكثر في السلب والنهب، وتحريض اللصوص على السرقة، ويقتسمها معهم. الشاب شعيب يكشف القصة بعد أن نهب الملك عشيقته ميكا، فيحرض أبناء المدينة وريفها ضد الملك؛ واصفًا إياه باللص، وأنه لا خلاف، أو لا فرق بينه وبين اللصوص العلنيين. في التراث الإسلامي -كما يقول سفيان الثوري- فإن سارق العلن يقيم الحد على سارق السر. أما الملك شوكة الدين فإنه يسلط اللصوص على السرقة والنهب ويقتسمها معهم، ويكون عازف الشبابة هو من يفضح هذه السيرة، ويقود ثورة احتجاج ضد شوكة الدين. 

في السجن يلتقي شعيب بزعيم اللصوص ابن حفصون؛ وهو أداة لصوصية من أدوات الملك؛ يسجنه الملك للتغطية على طبيعة العلاقة، وأحيانًا على خلاف في نسب الاقتسام. 

زعيم اللصوص ابن حفصون حداد يعشق فتاة في الحي ويخطبها إلى أهلها، فيرفضون تزويجه. فالحداد والمزارع وأبناء الخمس، وكل الحرف والمهن منتقصة ومزدراة في مجتمع البداوة والقبيلة. 

ألم يقل عمرو بن العلاء: ليس في اليمن إلا حائك برد، أو دابغ جلد، أو سائس قرد. وما اعتبره ابن العلاء نقيصة ومذمة هو أعظم مديح لليمن القديم الذي أتقن فنون التمدن وقيم الحضارة، وأهم وأعظم سمات التمدن والتحضر وبناء أسس الحياة ومنجزاتها. ابن حفصون الحداد يهرب مع خطيبته ويقتفيه أولياء أمور حبيبته مرجانة، فيقتل عددًا منهم، ويلاحظ لصوص الملك المعركة، فينتدبونه إلى صفوفهم كزعيم لهم بعد أن هزمهم أيضًا. 

يلتقي ابن حفصون في السجن بشعيب بن يمان المعتقل، فيعجب به كمظلوم، وأطلق عليه لقب المسكين. يأتي اللصوص لإنقاذ زعيمهم، ويصبح ابن حفصون زعيم القلعة، يكتشف مواهب شعيب، وحبه للكتابة ومقدرته الفائقة على التفكير، إضافة إلى الاستقامة والانضباط الأخلاقي؛ فيطلب منه تدوين الوقائع، كما ينتدبه للبحث عن ابنه الذي يجهل مصيره ومصير أمه، ويقدر شجاعة شعيب ومقدرته على معارضة الملك.

الصراع الذي دار في مدينة المرجانة وريفها مع ضرب الاحتجاجات واعتقال شعيب انتقل الصراع إلى قطبي الحكم (اللصوص): شوكة الدين ووزيره ولي الدين، وخطباء المساجد، ووعاظ السلاطين كتسمية الوردي، والإدارة الفاسدة، وفي الطرف المقابل لصوص العلن، أما الوزير ولي الدين فمع من غلب. في المعركة يهزم الملك لصوص السر لصالح لصوص العلن. 

تتفكك مملكة اللصوص، ويستولي ابن حفصون على مدينة الشمس (العاصمة). وعندما يموت شوكة الدين بعد الهزيمة يتنازع ما تبقى من المملكة نجلاه الأكبر منهما المنذر؛ فيؤسس للمملكة المنذرية، ويتمرد عليه أخوه صفوان، ويدور القتال بينهما، وينشق قائد جيش ابن حفصون جوهر، ويستولي على مدينة الميناء ذات الثروات الكبيرة والدخل الوفير. 

وهنا يبرز دور ابنة السماء ميكا كرمز للاستعمار الجديد؛ فبواسطة جهاز الاستخبارات المتطور تزود ابن حفصون بأدق المعلومات عن سير المعركة، واستيلاء جوهر على مدينة الميناء والأموال التي أخذها من القلعة لتمويل الحرب. 

تبرز الرواية طبيعة الصراع بالأساس على نهب الثروات، وتكديس الأموال، وإشعال الحروب للوصول إلى السلطة وامتلاكها، واستخدام الدين وتوظيفه للفساد والاستبداد؛ فالدين دائمًا خادم للسياسة كقراءة المفكر الإسلامي عبد الرحمن الكواكبي. 

في مدينة الشمس يلتقي شعيب بالوراق حسن، ويعمل معه كخطاط ماهر. يهتم بنقل المخطوطات المهمة، ويجيد الثلاثة الخطوط السائدة والمعروفة حينها. 

ينجح شعيب في امتحان الخط، ويشتغل ويطلع على كتاب الجمهورية لأفلاطون، وآراء أهل المدنية الفاضلة للفارابي، والتاج في أخلاق الملوك المنسوب للجاحظ، ورسالة الصحابة لابن المقفع. 

واضح من اختيار عناوين الكتب الاتجاه الفكري العقلاني لحسن الوراق، ولشعيب ولبشير ابن الزعيم حفصون، الذي يبحث عنه أبوه؛ وهو ما يمثل الاتجاه الجديد في مملكة مدينة الشمس حينها. 

يقوم شعيب إلى جانب نقل بعض الكتب المهمة، التي تلقى القبول والاستحسان من قبل القراء، أيضًا بتدوين وقائع الصراع الدائر داخل الحلقة الجهنمية بين لصوص الحكم العلني والسري في قلعة القمر، ومدينة الشمس. 

يستشير الملك ابن حفصون ميكا؛ فيحتد وزيره ولي الدين: هذه المرأة ناقصة العقل، والدين، والفرج؛ في إشارة إلى أن فرجها مطلوس؛ فيصاب بالسعال والضراط. في الماضي كان متملقو الملوك وأزلامهم يُسَمَّون الضراطين والصفاعنة؛ لتعرضهم للصفع، ولكن الضراط في مملكة ابن حفصون يكون شاهد الكذب والنفاق والغش، ويتحول إلى حالة عامة عندما ينتشر في مستويات مختلفة؛ وهو شاهد فساد الوضع العام، ويصبح اسم الشهرة لابن حفصون الأمير الضرّاط. 

يتكون الاتجاه الجديد من حسن الوراق. وقد نبهني العزيز الدكتور أحمد السري إلى خطأ الخلط بينه وبين عثمان التائب. وعثمان التائب أحد اللصوص الأقرب إلى ابن حفصون وموقع ثقته، وعندما يعرض عليه الانضمام إلى حربه يرفض استخدام السلاح، وينحاز لحسن الوارق، وللأخوين غير الشقيقين أبناء مرجانة؛ بل يقود عثمان اتجاه التأسيس للاتجاه السلمي البديل للدولة، ودول اللصوص، ويكون مخيمًا في قلعة القمر. 

زمن الرواية كبيئة وكطبيعة صراع وحكم ونماذج حكم وتطويع الدين للأهواء السياسة والمطامع الفاسدة والطغيان- زمن يمتد ويتطاول من الماضي إلى الحاضر البائس، وقديمًا قال حكيم العرب أبو العلاء المعري في رسالة الغفران- وأبو العلاء نسبه في اليمن، وصلاته عميقة بالجذور اليمنية: "وما زال اليمن منذ كان معدنًا للمتكسبين بالتدين، والمحتالين على السحت بالتزين". 

أما شاعر الوطنية اليمنية، أبو الأحرار محمد محمود الزبيري، كتسمية عمر الجاوي، فيخاطب الإمام يحيى: 

أيها المتباهي أنه ابن الإله أو ابن طه * تشهد الناس يركعون حواليك يعفرون الجباها إن تكن مؤمنا بإلهٍ* فلماذا تكون أنت اللهَ؟!

ويخاطب الإمام أحمد: يستخدم الله حتى كأن الله – حاشاه- في صلاة عكفية أما الأماكن في الرواية: مدينة المرجان، وقلعة القمر، ومدينة الشمس؛ فلا ينطبق على بلد غير اليمن. 

صحيح أن عبادة الكواكب عالمية، ولكن استيطانها في اليمن أكثر؛ فمعبد الشمس في مارب، ومعبد القمر في حضرموت: (وجدتها وقومها يسجدون للشمس). الآية. علاقة الاستعمار في مراحل معينة بالحداثة والاستنارة ولون من الحرية والديمقراطية الشكلية يلقى الاستجابة لدى فئات معينة. الانبهار بميكا هو الانبهار الذي شهدته الهند المفككة قرى مذرورة ومتناثرة كإشارة ماركس. والانبهار الذي شهدته مصر إبان الحملة الفرنسية، وانبهار الجنوب اليمني في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، لكن الانبهار بالفاتنة ميكا مطموسة الفرج؛ والفرج رمز النشوة والإنجاب والإخصاب، وفي خاتمة المطاف غزو الطائرات إلى وادي الرمان كتصحيح الدكتور السري، ونهب الأموال التي نهبها اللصوص سرًا وعلانية. التلاعب بالدين البراء نقرؤه في مقولة أبي العلاء المعري على أهميتها، وإنما هو أيضًا تاريخ آثم كتسمية الأحرار، وتعانيه اليمن في تبوء شيخ الضمان المنحاز للعرف القبلي زعامة حزب إسلامي، ويستطيع ضابط أمن متهم بالقتل أن يتزعم الحزب إياه، والأشد خطورة أن تُحكم اليمن بهوية إيمانية لم يعطها الله لنبي مرسل، ولا لملك مقرب.