مقالات
الانقلاب في السودان وغرام تملك الحكم
كل الانقلابات العسكرية في السودان -منذ انقلاب إبراهيم عبود 1958، وانقلاب النميري 1969، ثم البشير 1989، وأخيرا البرهان وحميدتي 2019- يتعاطى أصحابها مع السلطة وكأنها امتلاك مؤبد، وبالأخص الثلاثة الأخيرين.
فالنميري القومي، ثم الإسلامي والمشعوذ لا هم له إلا الاستنقاع في السلطة، ولو أضاع الجنوب، وكان نهج الترابي حليف نميري: "وحدة العقيدة أهم من وحدة التراب".
كان النميري يغير اعتقاداته وولاءاته وتحالفاته كما يبدل جواربه، وكانت الغلبة والقوة أساس الوصول إلى الحكم، ووسيلة الاستنقاع فيه للثلاثة.
أضاف الثلاثة إلى الغلبة والقوة -كحال معاوية بن أبي سفيان الذي قال في خطبة له: "والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم، ولا مسرة بولايتي، ولكني جالدتكم بسيفي مجالدة"- قدراً من اعتقاد التمكين كنصر إلهي؛ لارتباطهم بالاتجاهات الإسلاموية. فالبشير تلميذ لزعيم الجبهة المتعددة الأسماء حسن الترابي، والبرهان، ومعه حميدتي، خرجا من معطف البشير.
وحقيقة، فإن التمكين عند الإسلاميين -سنة كانوا أو شيعة- حاضر لديهم بقوة، خصوصا في الإسلام السياسي: ما قبل التمكين، وما بعد التمكين، وما بعد التمكين هو عصر الظهور لدى الشيعة، وللمسألة علاقة بدعوة الرسول الكريم في مكة، ثم التمكين بعد غزوة بدر في المدينة.
انقلب البشير على أستاذه الترابي، ولكنه أبقى على نهج الجبهة القومية، وإرثها الوبيل.
بتوافق بين قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، والمجلس العسكري: البرهان، وحميدتي، تشكلت حكومة الدكتور عبد الله حمدوك، وظلت محاصرة لعدة أشهر، ثم انقض عليها العسكر، واعتقلوا أعضاء الحكومة، واختطفوا رئيسها، وانفردوا بالحكم كدأبهم.
ظلت الاحتجاجات مشتعلة في ظل حكومة حمدوك؛ لأن الشارع السوداني المسيس كان يدرك أن العسكر هم الممسكون بزمام الأمور، وأن الدكتور حمدوك، ووزراء التغيير، ليسوا إلا واجهة لحكم العسكر.
انقلاب عسكر البشير على حمدوك كان تعبيرا عن سباق بين الانتفاضة الشعبية منذ العام 2013 عقب تشكيل قوى التجمع المهني، وبين العسكر، ورغم القمع الشديد والمتواصل، إلا أن الانتفاضة العارمة قد تجددت في 25 ديسمبر 2018، وعندما عجز العسكر عن قمعها، وخافوا من اقتلاع الحكم من جذوره؛ قاموا بانقلاب، هو انقلاب ضد الانتفاضة أكثر منه ضد سيدهم البشير، ومن هنا ظلت المواجهة مشتعلة.
تواصل قمع الاحتجاجات، وتقتيل المدنيين المحتجين كما في عهد البشير وأسوأ، ومع تفاقم القمع، تصاعدت الاحتجاجات واتسعت، وتكوّنت لجان مقاومة شعبية امتدت إلى مختلف أحياء العاصمة المثلثة، وإلى مدن السودان وأريافها، والتحقت جماعات من الكفاح المسلح، التي التحقت سابقا بحكومة الدكتور عبد الله حمدوك، بالاحتجاجات المدينة السلمية، بعد أن خاب الرجاء في تسليم السلطة للمدنيين، وكان الجديد نزول الحرية والتغيير (المجلس المركزي) إلى الميادين.
ضمت الاحتجاجات الجديدة ألوان الطيف السياسي والمجتمعي، ووجد قادة الانقلابات أنفسهم في مواجهة حقيقية مع الشعب السوداني بمختلف فئاته وشرائحه.
قادة البشير، والجبهة الإسلامية القومية مسؤولون عن جرائم الحروب، وقتل المئات والآلاف، ويصرون على امتلاك السلطة والثروة.
ينضم الوزراء الخارجون من السجون -قادة الحرية والتغيير (المجلس المركزي)- إلى الميادين؛ داعين إلى تسليم السلطة للحكم المدني، ويعجز العسكر عن قمع الاحتجاجات المتسع نطاقها، في الوقت الذي يشتد الضغط الدولي عليهم حتى من قِبل الأصدقاء الأمريكان الذين يرفضون رفع العقوبات؛ فيعود العسكر إلى لعبتهم القديمة الجديدة في التفاوض مع الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، ويبدأ الحوار بحضور بعثة الأمم المتحدة، والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (الإيفاد)، والاتحاد الأفريقي.
يبدأ الانقسام القديم الجديد بين الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، والكتلة الديمقراطية ذات الامتداد الشعبي الأوسع، ويتوصل العسكر مع جماعة المجلس المركزي، التي تضم الجبهة الثورية وجزءا من تجمع المهنيين، وتحالف قوى الإجماع الوطني، ومجموعات أخرى - إلى اتفاق جديد أطلق عليه اسم "الاتفاق الإطاري".
في الماضي، ومنذ انقلاب عبود، كانت خلافات السياسيين، والأحزاب التقليدية، البوابة التي يلج منها العسكر للانقلاب، وكثيرا ما استنجد قادة الأحزاب التقليدية بالعسكر للاستقواء بهم ضد بعضهم، ويكون الشعب والديمقراطية هم الضحايا، ولكن الانقسام هذه المرة لم يقتصر على القوى المدنية والسياسية والنقابية، وإنما امتد إلى المعسكر؛ فقائد الجيش البرهان، وقائد الجنجويد حميدتي مختلفان أيضا، فما سر خلافهما؟
معروف أن الجيش مُسْتَولٍ على الثروات، ومصادرها، والمؤسسات والشركات، ومناجم الذهب؛ لذا فهو حريص على الاستنقاع في الحكم، ويريد قائد الجنجويد أن ينازعه السلطة - مصدر الثروة- أو يتقاسمها معه على الأقل؛ فعملية الدمج - نقطة الخلاف الأساس- صلتها قوية باقتسام السلطة والثروة، ويبدو أن المدنيين أنفسهم سبب من أسباب الخلاف؛ فكل طرف يريد أن يكون له حضور في التشكيل القادم، ويريد كل منهما أن تكون له علاقات بالممولين والداعمين، وبالأخص السعودية، وبعض الدول الخليجية، وإسرائيل، والأمريكان، والروس.
يشتد التنافس على النفوذ، وتقديم الخدمات لدول الجوار، وربما يكون التعطيل هدفا مشتركا للطرفين، والمرعب أن يتحول التعطيل والتنافس إلى صراع بين قوتين لا شرعية لهما غير الغلبة والقوة، وقهر الإرادة الوطنية.