مقالات
الحرب في السودان.. جذور الصراع وأسبابه (1-2)
إذا ناقشنا الحرب المستعرة الآن في السودان، هل المشكلة المناطقية أو القبلية هي محور الحرب في السودان؟
وللإجابة عن هذا التساؤل سنجد أن هناك مشاكل متجذِّرة عرقيا ودينيا، وليس مناطقيا فقط، ولكنها تكون بشكل واضح وجلي في حروب السودان، وتستدعي العصبيات والاختلافات الأخرى لتزج بها في الصراع المناطقي الجهوي، وتستفيد منها لتقوية مركزها للسيطرة على الحكم، ويدّعي كل طرف من أطراف الحرب ما يريد؛ لكي يقوّي مركزه، وهذا يتضح بشكل خاص في الصراع في السودان، ما بين الشمال والجنوب، وبدرجة أقل بين شماله وغربه.
(الذي يمثل جزءا من مشكلة الحرب القائمة بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني، والذي يمكن أن نأتي إلى توضيحه بشكل أكبر في حلقة قادمة من هذا المقال)، حيث نجد أن المشكلة أقل تجذرا في شرق السودان.
فمن خلال تواجدي لأربع سنوات كطالب دراسات عليا لتحضير الماجستير في جامعة الخرطوم في تسعينات القرن الماضي، ومع استمرار الحرب واشتداد وتيرتها، خلال هذه الفترة من تواجدي في السودان، (كنت متواجدا منذ نهاية عام 1993م وحتى أبريل 1998م)، والمستعرة ما بين شمال وجنوب السودان بحرب ضروس فيما يُعرف بالمشكلة السودانية قبل انفصال جنوب السودان.
وتتلخص المشكلة المناطقية وتجذراتها الدينية والثقافية والعِرقية في أن هناك اختلافا دينيا وعرقيا وثقافيا، وليس فقط اختلافا مناطقيا.
صحيح أن المشكلة المناطقية تنعكس ضمن مؤشرات الاختلافات العِرقية والدينية والثقافية، ولهذا كانت المشكلة واضحة بشكل جلي، فيما بين ما يُعرف بشمال السودان وجنوب السودان، قبل حدوث انفصال جنوب السودان، وتكوين دولة جنوب السودان، من خلال تواجدي، خلال أواخر التسعينات، حيث لاحظت تباينات على مستوى المجتمع السوداني، وأن هناك فارقا واختلافات مناطقية تجر نفسها للاختلافات العِرقية والقبلية والدينية والإثنية، وغيرها من الاختلافات.
وحتى عندما كانت تجرى نقاشات ما بين طلبة الدراسات العليا من مناطق ومشارب شتّى، تلحظ ذلك التباين المناطقي، وحينها كنت مبتعثا لتحضير الماجستير في جامعة الخرطوم من جامعة صنعاء، وعلى نفقة حكومة الجمهورية اليمنية، فكنت أحضر كطرف محايد أثناء تلك النقاشات والجدل الذي كان أحيانا يشتد حتى يكاد يكون عراكا وسبابا، وكان هناك طلاب من جامعة جوبا (عاصمة دولة جنوب السودان الآن)، التي نقلت مع طلابها إلى مدينة الخرطوم؛ بسبب الحرب في الجنوب، ويدرسون معنا في جامعة الخرطوم، وكانت الحرب مستعرة في مناطق مختلفة من جنوب السودان، وكنا نلاحظ الاختلافات حينما يحتدم النقاش بين طلبة الدراسات العليا في جامعة الخرطوم المنتمين إلى مناطق من شمال السودان، أو من شرق السودان، مع طلبة جامعة جوبا،
أو حتى من غرب السودان مع طلاب من جنوب السودان، كنت أتابع ذلك التباين وأعكسه على الحالة اليمنية.
فقبائل الجنوب، الممثلة في قبائل الدينكا، والشلك، والنوير، وغيرها من القبائل، ممثلة في الطلاب، وهنا تجد اللغة العربية، التي هي ليست راسخة بلهجة جنوبية، أيضا مع القادمين من مناطق غرب السودان، الذي كان يشكل قبائل من القبائل العربية، أو من القبائل ذات الأصول الأفريقية، وغيرها من القبائل (كقبائل الرزيقات والمحاميد والحوازمة وهي قبائل عربية الأصل مع القبائل ذات الأصول الأفريقية؛ مثل الفور والمساليت والبيدية والزغاوة والفلايتا......الخ)، التي كانت موجودة في تلك المنطقة.
وإذا أخذنا -على سبيل المثال لا الحصر- قبائل شرق السودان، التي كانت ممثلة بقبائل الرشايدة، أو قبائل البجا، أو الهوسا، وهي من القبائل النوبية، وغيرها؛ مثل المهاس أو الحلفاوية، والعنصر الرئيسي الواضح في السودان في تلك الفترة هو سيطرة المناطق الشمالية، التي تمثل الولايات الشمالية للسودان؛ وكانت قبائل الجعيليين والرباطاب (قبائل: الجعليين وتفرعاتها كقبيلة الربابية وغيرها؛ مثل قبائل الشايقية والحلفاوية، والميرفاب........الخ)، وغيرها من القبائل كالمحس وغيرها، وهي المؤثرة والمسيطرة، سواء على مستوى الجيش، أو على مستوى مفاصل الدولة المختلفة.
فتجد ذلك الصراع المناطقي القبلي العِرقي لا الديني متمثلا حتى ما بين المسلمين، حيث كان المسلمون يصنَّفون حسب مناطقهم، أو قبائلهم؛ فمثلا: مسلم من غرب السودان يختلف مع مسلم من شمال السودان؛ لأن هناك اختلافا ونظرة تقسيمية تجعل المواطنة درجات متفاوتة حسب المناطق الممثلة لها، فهناك درجة رقم واحد (1) للمناطق التي تأتي أو تنحدر من القبائل التي تنتمي إلى شمال السودان، أو بمعنى آخر للناس المنحدرين من أصول شمالية، ثم تأتيهم الطبقة الثانية إلى وسط السودان، في مناطق مثل واد مدني (الجزيرة)، أو بالغضارف من شرق السودان، أو من هذه المناطق التي كانت تأخذ الرتبة رقم اثنين (2)، ثم تأتي النظرة التي كانت ترى المنتمين إلى غرب السودان -كدارفور وكردفان وغيرهما- أنهم مواطنون درجة ثالثة (3)، ومواطني جنوب السودان درجة رابعة (4). وهذه النظرة هي متجذرة في عقول الناس في السودان في تلك الفترة وإلى الآن -كما اعتقد.
فالنظرة عن غرب السودان (غرباوي) لم تتغيّر حتى وهي أحد أسباب الحرب القائمة الآن، واعتقد أنها جزء من مشكلة الحرب الدائرة الآن بين البُرهان (قوات الجيش ومعظمها من شمال وشرق السودان)، وحميدتي (قوات الدعم السريع ومعظمها أو العنصر الرئيسي فيها من مقاتلين من غرب السودان)، فلذلك نجد أن هذه الحرب المستعرة الآن في السنوات الأخيرة (2023- 2025) لها أبعاد قبلية ومناطقية وعِرقية، وليست دينية.
صحيح أن هناك، في غرب السودان، قبائل من أصول أفريقية وأخرى من أصول عربية، وهناك مسلمون بشكل كبير؛ مما يعني أو يكاد تكون النسبة الكبرى هم من المسلمين مع قلة إثنية غير إسلامية، إما أن تكون وثنية أو مسيحية، لكن النسبة الغالبة تكاد تكون أكثر من 95% مسلمة، أيضا الاختلافات العِرقية والدينية لا تنبع إلا من خلال القبيلة.