مقالات
الربيع العربي في اليمن
تهل على شعبنا اليمني، وأمتنا العربية، الذكرى الثانية عشر للانقلاب الربيعي الذي غمر الأرض العربية من الماء إلى الماء. ففي خاتمة العقد الأول من القرن الواحد والعشرين أحرق البوعزيزي جسده ردُا على إهانة الكرامة؛ فاشتعلت المنطقة العربية، فكان جسده الشرارة التي أشعلت السهل كله بحسب مقولة ماوتسي تنج الزعيم الصيني.
هبت رياح الثورة المضادة، ومن داخل الربيع العربي؛ لتحول الاحتجاجات المدنية السلمية إلى حرب عادت ببعض البلدان إلى ما قبل عصر الوطنية والدولة في ليبيا، اليمن، وسوريا، وتصاعد الصراع في السودان، ولبنان، والعراق، وتونس.
تونس- قلعة الربيع، والموئل الأول، تعاني أشد المعاناة من التفرد والسيطرة التي بدأها حزب النهضة الإسلامي؛ لتسقط بيد المستبد الفرد قيس سعيد الذي ألغى مؤسسات الدولة، والمعارضة معًا.
نجت مصر من التفكيك لوجود جيش وأمن قويين، وكذلك الجزائر، وتواجه سوريا، والعراق، ولبنان، مخاطر التفكيك والانهيار، وتواجه اليمن وليبيا سيطرة المليشيات المدعومة إقليميًا ودوليًا؛ لتفرض التفكك والتقسيم بقوة السلاح كأمر واقع.
ما كان الحديث عنه بالأمس كمؤامرة أصبح واقعاً يفقا العين. اليمن الأنموذج الأبشع تعيش أسوأ كارثة على وجه الأرض بحسب توصيف الرأي العام الدولي، وكواقع قاتل ومدمر، كانت الحرب الوسيلة المثلى والأداة الوحيدة لتغيب شمس الربيع العربي، ولتسويد العنف، وتفكيك الكيانات، وتمزيق النسيج المجتمعي، وفرض التطبيع، وما هو أسوأ.
في كل بلدان الربيع العربية، كانت الاحتجاجات المدنية السلمية البديل الأرقى لحكم الغلبة والقوة، سواء في أنظمة ثورات الحكم، أو في الشرعيات الثورية الآتية من حرب تحرير، أو انقلابات عسكرية، وكان الرد الحرب.
كان الاستعماريون الأمريكان والأوربيون يدركون شيخوخة هذه الأنظمة، وطغيانها، وانكشاف فسادها، وعجزها عن حماية مصالحهم، وعن فرض التطبيع؛ فكانوا يعلنون رفضهم قمع الاحتجاجات بالقوة، ويعدون الخطط البديلة لتسيد الفوضى، والحرب؛ لإيصال المنطقة كلها إلى التفكك والتقسيم.
الأنموذج اليمني فاجع؛ فقد حصدت الحروب المتواصلة والمتناسلة ما يزيد على نصف مليون، والمشردون أكثر من ثلاثة ملايين، والموتى بالأوبئة الفتاكة يسابقون قتلى الحرب، والجوعى غالبية السكان؛ حيث تتجاوز النسبة ال ٨٢ % مليشيات الأمر الواقع تتوزع اليمن جنوبًا وشمالاً، وجنوبًا وجنوبًا، وشمالاً وشمالاً. حروب الثمان سنوات أكدت أن غاية الحروب وأهدافها التفرد بالسيطرة والنهب والتقسيم؛ خدمة للصراع الإقليمي والدولي؛ وللمصالح الأنانية.
تحولت الأرض اليمنية إلى ميادين حروب، واليمنيين إلى أدوات قتال كتجار، ومرتزقة. حرب دمرت البنية التحتية لبلد فقير، وضعيف النمو، وشحيح الموارد، يعيش الغالبية فيه دون خط الفقر.
لن نحتفي بعيد أعيادنا في الذكرة الثانية عشر بالبكاء على الأطلال، أو محاولة اجترار الماضي الذي لا يعود إلا في شكل المهزلة، ولن نغرق في مستنقع صراعات الماضي الآثم، فاللحظة الاجتماعية لا تستعاد. إنها الموجة التي لن تستحم فيها مرتين.
نقرأ التجربة الرائعة والمنهوبة بعيون الحاضر الحي، وفكر الآتي؛ مدركين أن الليل يعقبه النهار، وأن بعد العسر يسرا، ولا يهزم تشاؤم العقل إلا تفاؤل الإرادة بحسب مقولة غرامشي، وليس لشعبنا وأمتنا من عدو غير الحرب، وتجارها، ومشعليها، ومموليها، وليس من سبيل لإطفاء حرائقها غير السلام، وحرب اللاعنف، والدعوة، بل الدعوات، لتصالح مجتمعي، ومصالحة وطنية.
إدانة الحرب وتجريمها، والعمل الدؤوب للخلاص منها هو الحرف الأول في أبجدية كفاح شعبنا راهنًا. لنسعَ إلى التصالح داخل القرية الواحدة، بل الأسرة الواحدة، وبين القرية والقرية، والمدينة وأختها، وداخل المجتمع الأهلي الذي مزقته الحروب الإجرامية، والمجتمع المدني المغيب بأحزابه، ونقاباته، وجمعياته، وشخصياته العامة.
ليتحاوروا ويتفاوضوا في الغرف المظلمة؛ فذلك شأنهم، وما يهمنا في تلاقينا اليومي، وفي نشاطنا، وكتاباتنا هو ابتكار الأساليب لغرس بذور السلام، وقيم التسامح، والتعايش، وإشاعة روح التآخي، ونبذ العداوات، وخطاب الكراهية، والتكفير، والتخوين.
هناك نشاط في الداخل والخارج لدعاة السلام والتصالح، وكلها بوادر طيبة، وبشائر خير، وما ينقص هو التنسيق، وتحديد نقاط الاتفاق للسعي المشترك وصولاً إلى خلق قوة سلامية حقيقية على الأرض، تتحرك في الداخل شمالاً وجنوبًا، شرقًا وغربًا داخل المدن والقرى، وفي مختلف المكونات السياسية، والمدارس، والمساجد، والمقاهي، والأحياء،والمنازل، والشوارع،والمقايل للحوار اليمني- اليمني.
عظمة الحادي عشر من فبراير أنها كسرت حاجز الخوف في نفس المواطن اليمني؛ فجبروت المستبد ليس السلاح فقط على أهميته، وإنما أيضًا ما يزرعه من خوف في نفوس المقهورين.
يوم سقط الخوف من نفس الحضرمي في هبة ٢٠٠٥ ويوم تنادي الضباط، والجنود، والمحالون على المعاش في عدن، والمناطق الأخرى، ونزلوا إلى الميادين في عام ٢٠٠٧ مطالبين بحقهم، ويوم تحرك في صنعاء محتجون أمام مجلس الوزراء ضدًا على الحرب في صعدة، وتبنوا مطالب إخوانهم في الجنوب- كانت تلك البداية الحقيقية لربيع اليمن.
أليس فاجعًا حد الفضيحة أن الشاب أيوب الصالحي الذي تحرك بسيارته في شوارع تعز يدعو عبر الميكرفون: "الشعب يريد إسقاط النظام" - مختطف ومختفٍ قسريًا إلى جانب رفيقه أكرم حميد حتى اليوم.
كانت تعز أول من رفع شعار: الشعب يريد إسقاط النظام، وانتشر شعار ثورة الربيع العربي في المدن اليمنية والأرياف، وكان أيوب صوت الضمير الوطني.
إن اقوى وأخطر أسلحة الطغيان هو زرع الخوف في النفوس، والترويع الدائم للمضطهدين، ولن يكون الرد إلا بنزع الخوف، وتجاوز الإحباط، والانتصار على القهر، والظلم.
التخويف، والتجويع، وزرع العداوات، والقمع، والحرب تجمع وتعني كل هذه المعاني الكريهة، وأسلحتنا في مواجهتها هو الرفض للحرب، والعنف بمختلف الصور والأشكال، والدعوة وإشاعة السلام، والسعي لتحقيق التعايش والتصالح المجتمعي والوطني، والابتعاد عن إغراء وإغواء الصراع الإقليمي والدولي.
الشعب اليمني غالبيته ضحية الحرب. مئات الآلاف خارج وطنهم بسبب الحرب والحصار المضروبين. يدعو الكثيرون منهم للسلام، ويشكلون مجموعات سلامية. كل هذه الجهود الوطنية في الداخل والخارج طيبة، والأساس في تجارب الأمم والشعوب الداخل فالكل، مدعوً للالتقاء على أمر جامع، وعدم إقصاء أو تغييب أي طرف؛ فالتفرد والإقصاء شيمة المستبد والطاغية.
اليمن كبير جدًا، واسألوا الرومان، والأحباش، والفرس، والأتراك، والبرتغاليين، والإنجليز يخبرونكم.
لا تستطيع قبيلة، أو قبائل، أو حزب، أو عدة أحزاب، أو أسرة، أو عدة أسر، أو جهة - أيًا تكن هذه الجهة- أن تحكم اليمن منفردة؛ فلا يمكن حكم اليمن إلا بالخلاص من أوهام الغلبة والقوة، أو الاستنجاد بالأجنبي، وبالصراع الإقليمي والدولي، والمهم البراءة والتطهر من وباء التفرد، أو دعاوى الحق والولاية، كما يصعب- إن لم يكن مستحيلاً- العودة باليمن إلى ما قبل الوطنية والدولة، أو إنكار يمنية اليمن، وحكم اليمن تاريخيًا لا يكون إلا بتشارك ألوان الطيف المجتمعي، والسياسي، والحزبي، وهو ما قامت به وعليه حضارة اليمن وتمدنها.