مقالات
الشباب اليمني بين الذاكرة والسياسة
مرت سنوات الحرب، كانت زمنًا ثقيلًا على الوعي الجمعي، وسوطًا نازلًا على أحلام الشباب اليمني. جيلٌ كامل خرج من رحم الحرب وهو يحمل ذاكرةً مثقلة بالخسارات، وأجسادًا أنهكتها القطيعة مع الأمل. في الحرب تنكسر الكائنات في أعماقها. كثير من الشباب عاشوا صدمة التحول من فكرة الدولة التي كانت تتلمس طريقها نحو التعافي، إلى واقعٍ هشّ تتنازع عليه المليشيات والمصالح. أحلامهم التي كانت تدور حول التعليم، السفر، أو بناء الذات، تآكلت تحت وطأة الحاجة، والخيبة، والنجاة اليومية.
لم تعد الحياة مشروعًا، لقد صارت مجرّد محاولة للبقاء. والمأزق الذي يعيشونه اليوم ليس سياسيًا فحسب، إنه مأزق الوجود في وطنٍ لا يشبههم، ولا يعترف بتعبهم، ولا يمنحهم حتى حق السؤال.
هذا المأزق هو في جوهره فجوة متسعة بين الإنسان والسياسة، بين من يُحكم ومن يحكم، بين المواطن والفكرة التي تمثله. الشاب اليمني يعيش تناقضًا يوميًا بين وعيه بما يجب أن تكون عليه الدولة، وبين واقعٍ يراه يتحلل أمام عينيه. السياسة بالنسبة له صارت تمرينًا مستمرًا على الخداع. حين يغيب صوت الدولة، يعلو صوت الحرب، وحين يغيب القانون، يتكلم السلاح. كيف يمكن لشابٍ أن يعيش بطمأنينة وصوت القذائف لا يغادر ذاكرته؟ كيف يمكن له أن يخطط لمستقبلٍ يراه كل يوم ينهار في نشرات الأخبار؟ الدولة تحولت إلى كيان شبح، تُطل من الشاشات بوجوهٍ لا تعرف شيئًا عن الناس، تبيع الأوهام وتقتات على معاناتهم. الخطاب الرسمي صار نوعًا من التمثيل الرديء أمام جمهورٍ يعرف الحقيقة، لكنه عاجز عن تغييرها.
الحروب سلبت اليمني علاقته العميقة بالأدب، عطّلت فيه ملكة التأمل، وجعلت الكتابة تبدو فعلًا ترفيهيًا في زمنٍ يطلب الخبز قبل الكلمة. كثيرون من الشعراء والكتّاب توقفوا عن الكتابة لأنهم لم يجدوا لغةً قادرة على احتواء الخراب. وحده من يكتب اليوم هو من يتألم، من يجد في اللغة مساحةً للبكاء المؤجل. الكتابة بالنسبة لليمني صارت وسيلة لترويض الألم، نوعًا من العلاج الذاتي، أو محاولة لتذكير الذات بأنها ما تزال حيّة. إن الأدب في الحرب لا يزدهر، لكنه يتحول إلى شهادة، إلى أثرٍ يخبر العالم أننا كنّا هنا، وكنّا نحلم.
أما السياسة، فهي قدرٌ يوميّ لليمني، يعيشها كمن يعيش مرضًا مزمنا لا يشفى منه. منذ عقود، لم تغب السياسة عن حياة اليمني، لكنها كانت دائمًا في شكلها المشوّه؛ سلطة، مصلحة، تبرير، ونجاة فردية. لو كانت هناك جائزة نوبل للسياسة، لكان اليمني مرشحها الدائم؛ لأنه وُلد داخلها قسرًا. السياسة في اليمن، شرطًا للوجود. كل يمني في داخله محلل سياسي، وشاعر، وفيلسوف صغير، لأن واقعه يدفعه إلى التفكير المستمر في المعنى، في المصير، في العلاقة بين السلطة والكرامة، وبين الإنسان والفوضى. اليمني لا يعيش السياسة، هو يُبتلى بها، يراها في رغيفه اليومي، في طوابير البنزين، في ملامح الخيبة التي ترتسم على وجوه الناس. الأدب والشعر والفلسفة بالنسبة له شكل من أشكال المقاومة الصامتة ضد هذا الخراب المستمر.