مقالات

الصيام.. عبور نحو الزمن والأبدية

27/02/2025, 12:45:24

هناك رغبة في الصيام عند كل كائن، حتى لو كان بلا دين، ولا مذهب، هناك إلحاح طبيعي في هذا الفعل.

الصيام -بحسب تعبير ابن القيم- "آلية تطيهرية كُبرى من جهة، وطريقة لإعادة ترتيب الأوضاع للإنسان ترتيبًا ساميًا، من جهه أخرى"، وهو بوصفه يرد النفس إلى القليل الكافي، ويصدّها عن الكثير المؤذي، لذلك الإنسان، منذ القِدم وقبل أن يأتي به الدِّين الإسلامي فرضًا، كان يشعر بحاجة مُلحّة للصيام، ليس من جانب صحي للجسم، فهذا الجانب قد تناوله الطب، والعلم بشكلٍ كبير، ولكن الإنسان أكثر حاجة إلى الصوم من جانب الاستقرار النفسي، الصيام فلسفة ذاتية، تتجاوز حدود المادية.

ليس الصيام امتناعا عن الأكل والشرب فقط، بقدر ما هو روحانية، إعادة لترتيب الذات، والتخلص من شرارة النفس، ثلاثون يومًا تُعيد ترتيب الحياة بأكملها، حالة من الاطمئنان تنبعث من الروح، السر هنا يكمن في التصالح مع الذات في هذه المدة التي هي ليست اختبارًا للصبر؛ بل رحلة نحو جوهرنا الأول، نُدرك حينها أن الامتلاء لا يأتي مما نستهلك، بل مما نتخفف منه؛ إنه إعادة ضبط الحواس، كي نسمع النداء الخافت للروح وسط ضجيج الحياة.

الصيام تطهير الوعي من شوائب الأفكار، إنه لا يعزز قدرتنا على الصبر، بقدر ما يعزز صِلة الرّوح مع خالقها، إنه امتلاء؛ امتلاء بالسكينة، بالتصالح مع الذات، بإعادة تعريف الحاجة والرغبة.

الصيام ليس انقطاعًا عن الطعام، بل انقطاع عن الضجيج، عن الزوائد التي التصقت بنا حتى ظنناها منّا. إنه لحظة تجريد، حيث نُختبر في خلوات الجوع، لا لنقاوم، بل لنفهم، لا لنصبر، بل لنرى.

ثلاثون يومًا تتعرَّى فيها النّفس من كل ما أثقلها، من شرهها، من جموحها، من ظنها أن الامتلاء في الامتلاك. نكتشف أننا لسنا بحاجة إلى الكثير، بل إن كثرة ما نملك هي ما صنعت حاجتنا. الصيام لا يعلّمنا الحرمان، بل يكشف لنا كم كنا أسرى لما نظنُّه ضرورة.

إنه لحظة مواجهة، حيث تسقط الأقنعة التي صنعناها لأنفسنا، وتبقى الرُّوح عارية في حضرة ذاتها، بلا تزويق، بلا تبرير. في هذا الخواء المؤقت، نسمع ما لم نكن نسمعه، نرى ما لم نكن نراه، كأنَّ الجوع ليس ألمًا، بل بوابة لفهمٍ آخر، حيث الوعي يتحرَّر من قيوده، وحيث الرُّوح تخطو نحو الضوء، خفيفة، صافية، موقنة أن الامتلاء الحقيقي لا يأتي من الامتلاك، بل من التخفف.

الصيام ليس امتناعًا عن الطعام فقط، بل امتناع عن الضوضاء، عن كل ما يشوّش صفاء الداخل. إنه حالة من الصَّمت الداخلي، حيث تُغلَق أفواه الجسد لتتحدَّث الروح، حيث تتوارى الأصوات الخارجية، ليعلو صوتٌ آخر، أكثر نقاءً، أكثر أصالة.

في الصيام، لا نُخفف الطعام فحسب، بل نُخفف ثرثرة النٍَفس، ضجيج الرَّغبات، ثقل الحوارات الداخلية التي لا تنقطع. نمارس الصمت، لا كغيابٍ للكلام، بل كحضورٍ أعمق للوعي، كإصغاءٍ لما يهمس به القلب عندما يتوقَّف العقل عن الصخب.

نكتشف في الصيام أن كثيرًا مما كنا نقوله لم يكن ضروريًا، وأن كثيرًا مما كنا نفكر فيه لم يكن إلا تكرارًا عقيمًا. الصيام ليس مجرد جوع، بل لحظة استماع، لحظة يُنصت فيها الإنسان إلى نفسه لأول مرّة، بلا مقاطعة، بلا تشويش.

الصيام تجربة تتجاوز اللحظة، إنه انزياحٌ عن الزمن العابر نحو زمنٍ أكثر عمقًا، حيث ندرك أن الوقت ليس مجرد تتابع للساعات، بل نهرٌ يجرفنا نحو معنى أبعد.

عندما نصوم، نشعر بالزمن بطريقة مختلفة، يصبح أكثر بطئًا، أكثر نقاءً، كأننا نخرج من عجلة الاستهلاك اليومية، ونقف في نقطة خارج الزمن، حيث لا يُقاس الوقت بما نأكل أو نشرب، بل بما نشعر ونُدرك.

أخيرًا: الصيام يوقظ وعينا بالوجود، يجعلنا نرى الزمن لا كخصمٍ يسرق أعمارنا، بل كجسرٍ نعبر عليه نحو الأبدية.

كل لحظة في الجوع، كل ساعة في الصبر، ليست نقصًا، بل امتلاء، ليست انتظارًا، بل عبورًا نحو المعنى، حيث نتحرر من قيود الجسد، وندرك أننا لم نكن يومًا كائنات مادية محضة، بل أرواحٌ تحاول أن تتذكر الطريق.

مقالات

الخيانة بلباس الجمهورية

يتشدّق أتباع طارق صالح "بالجمهورية"، كما لو أنهم استيقظوا فجأة ذات فجر على صوت المعركة، وقرروا أنهم أرباب الدولة وورثتها الشرعيون، وأن الشعب لا يُؤتمن على تاريخه، ولا يحق له أن يحدد هوية من يمثله، أو من يتكلم باسمه. يتحدثون عن الجمهورية كما يتحدث الكهنة عن كتبهم المقدسة، لكنهم ينسون أو يتناسون أن أول خنجر غُرس في جسد الجمهورية لم يكن بيد الحوثي، وإنما بيد من تربّى طارق في بيته، ورضع من ثدي سلطته، وتكوّن في دهاليز خياناته.

مقالات

أساليب حوثية تعزز ما يفعله سلاحها

لا تستند الحركة الحوثية في استمرار هيمنتها وسيطرتها في صنعاء إلى السلطة والقوة العسكرية وحدها، فالسلطة وقوة السلاح لا يكفيان لضمان استمرارها في موقع الهيمنة، من دون اتباع أساليب وحيل من شأنها إنهاك المجتمع، وإشغال الناس، وإغراقهم في قضايا كونية ومعارك وهمية كبرى تُفرض عليهم دون أن يخوضوها فعلياً. لكنها، من ناحية أخرى، فعالة في صرف الناس عن التفكير أو الاهتمام بمسائل حياتهم اليومية، وما يتصل بشؤونهم الشخصية والعائلية والمهنية والعلمية والاقتصادية، وتأخذهم بعيداً عن القيام بأي نشاط أو فعل مستقل عن الجماعة، أو حتى معها، ما لم تكن هي من حددت فكرة النشاط وطبيعته وحجمه ومجاله والحاجة إليه.

مقالات

حق المرأة في الولاية وحقها في الدية ( 1-2)

هذا هو الجزء الثاني من الندوة التي أقامها «منتدى التنمية السياسية»، و«منظمة صحفيات بلا قيود»، في صنعاء، فندق «تاج سبأ»، في 27 / 5/ 2007. والجزء الثاني مكرسٌ للرد على أوراق الأساتذة: عبد الملك التاج، والشيخ عارف الصبري. في البدء ألقت الأستاذة توكل كرمان- رئيسة «منظمة صحفيات بلا قيود»، كلمةً حَيَّتْ الحاضرين، وتحدثت عن التخلف في البلدان الإسلامية، وأنَّ خروج المرأة مسئولية المرأة والرجل مَعًا. داعية كُلَّ صاحبِ فقه، ومِنْ أوتي حظًا من العلم الشرعي إلى دعوة المرأة للمشاركة في الحياة والنهوض، وإلى نهج واجتهاد جديدين يرفدان إعلان حقوق الإنسان والعهد الدولي؛ تنير الطريق، ولا ترى في الانتخابات بدعةً وَضَلالاً، ولا في مشاركة المرأة فِسْقًا وفجورًا.

مقالات

تعز... الوجه الذي كان يودّعنا!

لم يكن أيُّ مسافرٍ يطيب له السفر إلَّا من خلال مدينة تعز، أو أن تكون تعز آخرَ ما تقع عليه عيناه، يكحّلهما بها حتى تقرَّ نفسه في رحلة قد تطول أو تقصر، داخل اليمن أو خارجه.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.