مقالات
العيد الصيني
1/1 /4719
1 فبراير 2022، يوم العيد الأكبر للأمة الصينية، مفتتح العام الصيني الجديد 4719 ص، الطقس الفرائحي المسافر لأكثر من 4000 عام، القادم من غور التاريخ إلى ذروته. واحدة من حيل الإنسان التي اكتشف عبرها أن الزمكان قادر على هزيمة كل شيء إلا الخيال، ومنذ ذلك الاكتشاف والخيال ينبت الواقع؛ فالخيال وحده يخلق الأساطير ويقود العلم والأساطير والعلم هما أبو الواقع وأمه.
هنا واحدة من الأساطير التي أنجبت واقعا فرائحيا في مواجهة أساطير ولّدت ولاتزال واقعا كارثيا، كان الشرير "نيان
" يهاجم الناس والحيوانات ولا يخشى شيئاً سوى الضوضاء المبهجة واللون الأحمر والنظافة؛ لذا لا سبيل لمواجهته إلا بهذه الثلاثية المقدّسة.
بسيطة هذه الأسطورة، ومختصرة تُعلي من شأن هذا التثليث المقدّس، أعيشُ الآن لحظات واقع هو في حقيقته حفيد بعيد لتلك الأسطورة، مهرجانا فرائحيا مكتسحا للجميع هنا على المستويين الرسمي والشعبي. ففي هذه اللحظات الجميع موغل في الضحك على الحياة، هذا المصطلح "الضحك على الحياة" استعرته من الرجل الكهل البشوش الذي قدِم ليحثني على المشاركة في الاحتفال الصاخب المقام على ضفة هذا النهر الصناعي في حي فوتهان القديم التابع لمدينة إيوو، قائلًا: "اضحك على الحياة! بإمكان أي مستمع أن يترجمها بسهولة إلى (ابتهج) إلا أن المصطلح أعجبني جدا، وأدركت أنه يعني ما قاله، فقد رأيته مع رفاقه يستغلون الفرصة ليضحكون على الحياة في هذه اللحظات بعد أن ضحكت عليهم طوال سِني العمر التي مضت".
الفوانيس المعلقة، والمغلفات الحمراء، والشرائط الورقية المنقوشة بالأشعار، والأمنيات السعيدة، والمفرقعات النارية والإلكترونية، وعبارة:
xin nian kuai le
新年快樂
التي تعني: سنة جديدة سعيدة، هي عنوان هذه اللحظة من لحظات "ليلة الفوانيس"، وهي ليلة العيد الكبير الذي يصادف هذا العام (عام النمر المائي). والنمر المائي: مصطلح مركب ناشئ عن عملية المزج بين الأبراج الصينية الاثنى عشرة (الفأر – الثور – النمر – الأرنب – التنين – الأفعى – الحصان – الخروف – القرد – الديك – الكلب – الخنزير) مع مكونات الكون الخمسة – من وجهة النظر الصينية القديمة – (الماء – الخشب – النار – الأرض – المعدن)، وهذه الأساسيات الخمس هي بالنسبة للصينيين القدماء حقول الطاقة التي تحيط بالكون، وتحافظ على الحياة فيه.
فالسنوات الصينية مرتبطة بالأبراج والعناصر الخمسة في الوقت ذاته، فالعام الماضي كان عام الثور المعدني، وقبله كان الفأر الأرضي، والعام القادم سيكون الأرنب الخشبي، وهكذا تستمر العلاقة التراتبية 12 5 في دورتها، ومن الضرب الرياضي لعلاقة: الأبراج العناصر، يمكننا استنتاج أن دورة التسمية هذه تستغرق 60 عاما حتى تكرر نفسها، أي أن أقرب عام للنمر المائي بعد هذا العام سيكون عام 4779 ص، الموافق 2082 م. وإذا كنت من مواليد برج النمر فسيهمس صديقك الصيني في أذنك "هذا العام عامك "، لكن عليك أن تتحلى بصفات النمر من حيث الإقدام والمغامرة، فهذا البرج هو برج المغامرين والشعراء، حيث الخيارات المتاحة، إما الكل أو لا شيء. والنمر أيضا مصطلح يطلق هنا على الشخص المتغول في شيءٍ ما، وله صلاحيات ونفاذية فوق المسموح له، حتى إن واحدة من عمليات مكافحة الفساد، التي قادها الرئيس الصيني الحالي ضد متنفذين وفاسدين أطلق عليها اسم : "اصطياد النمور" .
ولا تنزعج إذا كان صديقك الصيني هذا قد صاغ سؤاله لك بطريقة مباشرة، كأن يقول لك:
أي حيوان أنت؟ فهو لا يتعمد الإساءة، بل يسألك عن البرج الصيني الذي تنتمي إليه، وحينها عليك الإجابة بشكل مباشر أيضا، وبدون أن تظهر أي علامات استغراب أوتحسس، بل أخبره إن كنت ثورا أم كلبا أم قردا أم...، وحينها سيخبرك بالكثير عن شخصيتك بما فيها سنة ميلادك، وأشياءً كثيرةً أخرى كتلك التي تسمعها من المشعوذين ومدرّبي التنمية البشرية، وشيعة طلال أبو غزالة.
أن يدخل ما يقارب من مليار ونصف المليار شخص في حفلة كبيرة تمتد لأكثر من أسبوع – وهو زمنا قد تم تقليصه مقارنة بالسابق – هذا يعني أن ثمة أرقاما وقرارات وإجراءات. فعلى ساحة الأرقام، هناك 900 مليار يوان صيني "142.8" مليار دولار متوقع إنفاقها خلال إجازة هذا العام - الأرقام حسب تقديرات المصرف المركزي الصيني- هذا أمر يعزز من الاقتصاد الداخلي الذي تتجه الإدارة الصينية الحالية إلى تعزيزه بوتيرة أعلى بكثير من أي مرحلة سابقة، واقتصاد الإجازات إجراء تديره الحكومة الصينية بحِرفية عالية جدا مستفيدة من بلادٍ مليارية السكان، وشاسعة المساحة، ومترعة بالوجهات السياحية الطبيعية منها والمنشأة، ومعتمدة ربما على مقولة شائعة مفادها أن: المواطن الصيني حريص حد البخل طوال أيام العام، لكنه منفق حد الإسراف في أيام الإجازات.
أما في الإجراءات والقرارات في "كوفيد -19" وأبنائه ما زالوا أكبر المؤثرين في صناعة أي قرار، أو اتخاذ أي إجراء، فالحد من السفر في أعظم مواسم التنقل على طول وعرض الجغرافيا الصينية يأخذ بالاعتبار نظرية الجزرة والعصا. فتحفيزات قضاء الإجازة في مكانك الحالي تمضي بالتوازي مع إجراءات التشديد الوقائية ضد الوباء، فتحفيزيا قدمت حكومة مدينة "إيوو"، التي نقيم فيها قسائم تخفيض تصل قيمتها ل800 يوان يمكنك الاستفادة منها فقط، إن قضيت إجازتك داخل المدينة، أما التشديد الوقائي فقد ينتظرك 28 يوما من الحجر الصحي نصفها عند الذهاب والنصف الآخر عند الإياب، إن سافرت وظهر على كودك الصحي نجمة الاشتباه بالإصابة. هذه الأيام ال28 هي ما تجعلني وولاء نقرر في المساء أن نسافر بكين لحضور الأولمبياد الشتوي الذي سيبدأ بعد أيام، وفي الصباح نلغي القرار، أحدثُها وهارون عن ضرورة حضور الأولمبياد ثم أتذكر ال28 يوما التي قد نتعرض فيها للحجر الصحي، فأنتقل مباشرة للحديث عن إمكانيات التلفزيون الصيني المذهلة في نقله لكل تفاصيل الأولمبياد، وعن طائرات الدرونز وهي تصوّر كل التفاصيل، وأن الأفضل هو مشاهدة فعالياته عبر شاشة التلفاز من البيت، حيث نقيم الآن.
وكلما طرأت الفكرة، أتذكر الحجر، وأتذكر التزاماتي بعد الإجازة للعملاء من حيث شحن بضائعهم، أو تثبيت شرائها، أو زيارة المصانع، وأتخيّل كيف سيتم ذلك إن حدث الحجر الصحي، فأستعيذ من فكرة مغادرة المدينة. وبعيدا عن أي مؤثر، أقتنع بأن المشاهدة على التلفاز تمنح زوايا أفضل للرؤية، لا يشارك هارون في النقاش إلا عند سماعه مصطلح طائرة تصوير، فيطلب شراء واحدة، وبإلحاح بلطجي عمره 20 شهرا يرفض قبول واحدة صنعتها له باستخدام ورقتي A4.
أجمل ما في العيد الصيني هو امتناع الصينيين عن مراسلاتك والحديث معك بخصوص العمل، إلا أن واحدا يكسر هذا العرف الصيني الجميل، فيرسل لك ملفا يعرض فيه منتجات معمله. أُرسلُ له مثلًا صينيا يقول: حتى الثعلب النائم يرى الدجاج في أحلامه. وأتبعها: حتى مع الإجازة تراسل العملاء بملفاتك، يرسل الكثير من الوجوه التعبيرية الضاحكة، ويتبعها بملف تسويقي آخر، هذه المرّة لم أرد عليه بمَثل، بل قلت شيئا مما يقوله أصحابنا في ماوية. قلتها، ولم أرسلها له، وأرسلت له تهنئة أتمنّى له فيها نمرا كبيرا هذا العام .
新年快樂