مقالات
الفسيل ومذكراته: "الحياة التي عشت"
يصعب قراءة مذكرات الأستاذ الراحل محمد عبد الله الفسيل في مقالة أو حتى عدة مقالات صحفية؛ لذا فقد رأيت تناول بعض القضايا التي تناولها، وكان له رأي فيها، يتفق، أو يختلف معه بشأنها.
ولعل انقلاب الـ5 من نوفمبر 1967 من القضايا المهمة التي كان مؤيداً لها، وواحداً من صناع تياراتها السياسية، وإن لم يكن من صناع الحدث، فعندما قام الانقلاب، كان حينها في أسمرة، كما يذكر في مذكراته.
فالـ5 من نوفمبر نتيجة صراع دامٍ وعنيف يمتد لخمسة أعوام، ويشمل الشعب اليمني شمالاً وجنوباً، وتتشارك فيه الأطراف الاجتماعية والسياسية والفكرية.
ثوار سبتمبر: صغار الضباط، وكبار الضباط، والأحرار اليمنيون، والمشايخ، والأحزاب السياسية الموجودة رغم تجريم الحزبية، والمجتمع التقليدي، والتجار والعمال والفلاحون، والقوى الحديثة، وكلهم مشاركون ومتصارعون.
ويمتد الصراع إلى القوتين الأساسيتين: مصر التي قادت نجدة قومية؛ لمساندة ودعم الثورة اليمنية، وفي الجانب الآخر العربية السعودية الداعمة بالمال والسلاح الملكيين، وبعض كبار المشايخ "المجمهرين"، وبعض القوى السياسية، إلى جانب الاستعمار البريطاني في الجنوب، ويتشابك الصراع في اليمن بالصراع الدولي: الاتحاد السوفيتي، والمعسكر الاشتراكي – والأمريكي، والأوروبي.
قبل تفكيك الصراع ومفرداته لا بُد من قراءة رؤية الفسيل. يسرد رواية الإرياني لسفر السلال إلى القاهرة، وأن حركة يسارية مدعومة من حكومة اليمن الديمقراطية الشعبية (هكذا) بقيادة جار الله عمر، حاول، ومن معه، الاتصال بحرس السلال، وبقائد الصاعقة والمظلات لمنع حركة الجمهوريين المعتدلين، وقد فشلوا؛ لأن الشيخ عبد الله أقنع عبد الرقيب عبد الوهاب، وقائد المظلات بتأييد الجمهوريين المعتدلين. ويضيف: أن عبد الرقيب رد على جار الله أن مصلحة اليسار التعاون مع الجمهوريين المعتدلين.
قراءة الأستاذ الفسيل تعبِّر عن موقف ""حركة الأحرار، والجمهوريين المنشقين، ومجموعة خمر والطائف، ولكن لنقرأ رؤية الطرف الآخر، والمعبِّر عنه جار الله عمر؛ فجار الله عمر في مذكراته يدوِّن موقف حركة القوميين العرب.
ففي حين يرى أن المصالحة لم تعد ممكنه، يعود ليقول: إن المصالحة كانت ممكنة بتشكيل إئتلاف، وهي رغبة أكثر منها واقعاً، وهو ما يتداركه بالقول: كانت الأولوية للصراع على السلطة.
ويشير أن موقف حركة القوميين العرب ضد الانقلاب، وهو موقف الناصريين والاتحاد الشعبي، وكان البعث، وبعض الضباط والمشايخ وبقية السياسيين مؤيدين للانقلاب.
وبغض النظر عن التفاصيل، فقد كان الطرف الرافض للانقلاب غير قادر على إيقافه، وهو ما يتفق عليه الفسيل المؤيد، وجار الله المعارض. وهناك حقيقة لم يشر إليها، وهي لقاءات سبقت الانقلاب يقوم بها الأستاذ محمد عبده نعمان، وتضم العديد من القوى السياسية، وكانت تهدف إلى موقف مؤيد، والقراءة المتمعنة في الظروف الواقعية حينها وطنياً وعربياً ودولياً، تؤكد صعوبة التصالح، أو إمكانية وقف الانقلاب.
كان الموقف الداخلي مختلاً؛ فالقوى المعادية للثورة والجمهورية في موقف أقوى، فضباط الثورة الصغار قد تم إبعادهم منذ الأيام الأولى، وتوزعوا على المعارك، وقتل الكثيرون من قياداتهم، والأحزاب الحديثة منقسمة ومتصارعة، وقوى المجتمع المدني الحديث (الطبقة الوسطى) ضعيفة ومنقسمة أيضاً، ولا تمتلك الوعي الكافي، وقوى الثورة في الجنوب، وهي في ذروة الصراع ضد الاستعمار البريطاني، وتدق أبواب الانتصار منقسمة أيضاً، ومتصارعة.
الوضع في المستوى العربي أكثر اختلالاً، وأشد خطورة. فهزيمة الـ5 من حزيران 1967 كسرت القوة العربية القومية، خصوصاً في مصر وسوريا، كما أن الجيش المصري المساند والمدافع عن الثورة في اليمن انسحب منها.
هزيمة 1967، وانسحاب الجيش المصري من اليمن حمل دلالتين مختلفتين؛ ففي حين مثل انتصاراً للقوى المعادية للثورة والجمهورية، وحتى للجمهوريين المعتدلين أنفسهم - حسب تسمية الأستاذ الفسيل؛ فإنه مثل مخرجاً لعشرات المعتقلين من الزعماء والقادة والضباط والسياسيين اليمنيين الذين لم يكن الكثيرون منهم معادياً للثورة المصرية، أو النجدة القومية، وكانت مواقف بعضهم تتركز من حول نقد الممارسات المسيئة، ونقد المواقف غير الصائبة، ونقل الخلاف العربي - العربي، والدولي، والخلاف بين الأنظمة، والأحزاب، وفرضه على الواقع اليمني.
والمأساة أن الملف اليمني كان بيد مراكز القوى: عامر، والسادات، وقد لعبا دوراً في تقوية مشايخ الضمان بتشكيل "المجلس الأعلى للمشايخ"، ومنحهم رتباً سياسية (درجات وزارية)، والمساومة مع الإنجليز، والعمل على إذكاء الصراعات بين الأحزاب السياسية الحديثة: البعث، وحركة القوميين العرب، وخلق الصراعات بين مختلف الأطراف، وإعاقة بناء الجيش الوطني، وإطالة أمد الحرب، وفي الأخير اعتقال الحكومة اليمنية، وقيادات وطنية كبيرة.
وينتقد الشهيد جار الله عمر مظاهرة الـ3 من أكتوبر 1967، ويرى أنها مهدت لـ5 من نوفمبر 1967. والحقيقة - إضافة إلى ما أشار إليه جار الله - أنها أيضاً قد أساءت إلى دور مصر، وكان أثرها كبيراً على الزعيم جمال عبد الناصر الذي رأى فيها نكراناً للجميل. يرى الأستاذ الفسيل أن نوفمبر مثلت نقلة مهمة للثورة والجمهورية من الاعتماد شبه الكامل على القوات المصرية للدفاع عن الثورة، والواقع أن هذا جانب، ويعود فيه الفضل ليس لنوفمبر، وإنما لأبناء سبتمبر، وللإرادة الوطنية التي تحدت نوفمبر، وكسرت حصار السبعين يوماً.
كان رهان قادة نوفمبر أن تلتزم السعودية بتعهدها في مؤتمر الخرطوم أمام جمال عبد الناصر بعدم دعم الملكيين، ومدهم بالسلاح والمال، وأن تدعمهم كبديل للملكيين، لكن السعودية كان رهانها على الملكيين، ورهانها على تأديب صنعاء، والشعب اليمني بإسقاط الثورة بالسلاح.
لقد أغدقت المملكة المال والسلاح، وضاعفت أعداد المرتزقة الأمريكان، والبريطانيين، والفرنسيين، والبلجيك، وهرب الضباط الكبار، وخرج الزعماء من صنعاء، حسب رواية الفسيل، والواقع أيضاً؛ وهو ما يؤكده سنان أبو لحوم في مذكراته.
فالذين صمدوا في صنعاء، ودافعوا عن الثورة والجمهورية أبناء الشعب اليمني من الضباط الصغار، ومن الأحزاب السياسية الحديثة: الحزب الديمقراطي الثوري، وحزب البعث العربي الاشتراكي، والتيار الماركسي، والناصريين، والمستقلين على كثرتهم، وكان الجيش والأمن والمقاومة الشعبية أداة الصمود وكسر الحصار.
الجمهوريون المعتدلون - بحسب تسمية الأستاذ الفسيل - في زمن الحصار، وما قبله وما بعده، كانوا في تواصل مستمر مع الطرف الملكي، وكان همهم إبعاد بيت حميد الدين فقط، ويقبلون من السعودية أكثر مما قبل بيت حميد الدين.
يقدم الزعيم جار الله عمر اعتذاراً شجاعاً لا يقدر عليه إلا فادٍ كجار الله عمر. يشير جار الله عمر في مذكراته إلى الصراع بين الأطراف المختلفة، وأن أحداث أغسطس 1968 تدل على عدم النضج السياسي، وسيادة العاطفة، والرغبة الثورية المتأججة في تحقيق الانتصار بالقوة، كما أنها صراع على السلطة أيضاً، ويرى أن انكسار الحصار أدى إلى وجود ازدواج في السلطة بين القوى الجديدة، وبين أجهزة السلطة، وأن للصراع خلفيات فكرية وسياسية مختلفة: جغرافية، ومذهبية.
يضيف: "وكنا نحن الضباط الصغار متحمسين سريعي الانفعال: أقل صبراً، وأكثر طموحاً". وهو ما يسميه إنجلز مزاج نفاد الصبر. ويرى إنجلز أن المثقفين، والأدباء، والكتاب غالباً ما يصابون بهذا الداء.
معروف أن جار الله عمر، ورفاقه في الحزب الديمقراطي الثوري، والتيار القومي، واليسار كانوا مثقفين ثوريين. (الكاتب).