مقالات
المبادرة الأمريكية شكل من أشكال الحرب!!
في الـ2 من يونيو/ حزيران، قدَّم الرئيس الأمريكي، جو بايدن، مبادرة اعتبرت خارطة طريق للحرب على غزة، ونسبها لإسرائيل.
تتكون المبادرة من ثلاث مراحل: الأولى: وقف إطلاق النار لستة أسابيع، الثانية: انسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق المأهولة، والإفراج عن عدد من الرهائن، لاسيما النساء والعجائز والجرحى مقابل إطلاق مئات من الفلسطينيين، انسحاب الإسرائيليين بشكل كامل من غزة مقابل إطلاق جميع الرهائن بمن فيهم الجنود، وسيتم الانتقال بوقف إطلاق النار ليكون وقفا دائما للأعمال العدائية.
أما المرحلة الثالثة: فإعادة إعمار غزة، ودعم استقرارها من قِبل الولايات المتحدة، والمجتمع الدولي.
في المراحل الأولى للحرب، راهنت إسرائيل ومعها أمريكا (الشريك في الحرب)، وأوروبا الاستعمارية على حسم المعركة خلال أسابيع أو أشهر قليلة، وكانوا يرفضون مجرد الحديث عن هدنة، أو وقف إنساني مؤقت للحرب؛ فَلِمَ الرمي بالمبادرات المكررة، ودعوات الحلول؟ فهل هذا لعجز الجيش الإسرائيلي عن القضاء على المقاومة الفسلطينية؛ رغم حرب الإبادة، وتدمير المدن والقرى في غزة، وكل معالم الحياة؟ وهل سبب ذلك الاحتجاجات المتصاعدة داخل الكيان، الداعية إلى وقف الحرب وعودة الأسرى؟ وهل الانقسامات داخل مجلس الحرب سبب في ذلك، وكذا المظاهرات في أوروبا وأمريكا وكثير من مدن العالم؟ وهل لزيادة ضغط الرأي العام الدولي، والموقف في الأمم المتحدة، ومجلس الأمن الرافض للحرب، أثر في ذلك؟
وهل لما يدور في محكمة العدل الدولية، وتوالي الانضمام إلى جنوب أفريقيا، أثر؟ وهل يكون الدافع التراجع النسبي في موقف أوروبا الاستعمارية، ورفض شعوبها حرب الإبادة؟
وما مدى ارتباط ذلك بمبادرة بايدن بالانتخابات الرئاسية، وانشقاق حزبه، وموقف العرب والمسلمين، وبعض الأمريكان واليهود من التصويت له؟
وهل للأمر علاقة بالصراع الخفي بين بايدن ونتن ياهو المراهن على إطالة الحرب وعلى انتصار الجمهوريين ومجيء ترامب؟
صحيح أن بايدن يتصرف إزاء إسرائيل وإزاء الحرب كصهيوني، وهو يدرك ضغط اللوبيات الكثيرة الداعمة لإسرائيل وللحرب، وأهمها: أيباك، ولوبيات السلاح والنفط، والإنجيليون الصهاينة.
يتصرّف نتن ياهو كلاعب في صراع الانتخابات الأمريكية، وحضوره الصهيوني كبير في اللعبة، ويستغل ضعف بايدن وتردده، وانقسام حزبه.
ترحب المقاومة الفلسطينية بالمبادرة؛ واعدة بالتعاطي الإيجابي معها، في حين يرفضها نتن ياهو وحلفاؤه (اليمين التوراتي الصهيوني)، وبعض قادة الحرب، ويكون الرد الأمريكي اتهام حماس، وتحميلها مسؤولية الحرب، ورفض المبادرة، كما يجري الضغط على مصر وقطر (الوسطاء العرب)؛ لممارسة الضغط على حماس للقبول بالمبادرة الملتبسة، التي تترك باب استمرار الحرب مواربا، وتتيح لإسرائيل في المرحلة الثانية عدم الالتزام بوقف الحرب.
حصار غزة المطبق، واحتلال معبر رفح وفلادلفيا يعني أول ما يعني عودة الاحتلال، والمضي بالحرب إلى جعل غزة منطقة غير صالحة للسكنى.
ويقيناً، فإن قتل وتدمير المخيمات والأحياء وآبار الشرب والمدارس والمستشفيات ووسائل الإسعاف والنقل والمخابز، وتقتيل الأطباء والمسعفين، ومنع إرسال المساعدات، ومنع الغذاء والماء والدواء، وإجبار الغزيين على الفرار من مكان لآخر، وتقتيلهم، لا غاية لها غير التهجير.
المجزرتان الأخيرتان في مدرسة "الأونروا في النصيرات"، ومجزرة مخيم النصيرات (8 يونيو)، تتحدث الأنباء عن مقتل أربعين لاجئا في المدرسة، وأكثر من مئتين وأربعة وسبعين، ومئات الجرحى في هذه المجزرة.
ابتهج بايدن للمجزرة التي سماها نتن ياهو "المعجزة"، وتؤكد الأنباء اشتراك أمريكا في الإعداد والتخطيط والمشاركة عبر تحرك شاحنتين خاصتين بالمساعدات من الجسر العائم تحمل جنوداً بأزياء مدنية لمباغتة المقاومة.
ويقيناً، فإن للأقمار الصناعية ووسائل الاستخبارات الفائقة التطوّر دخلاً في تحديد مواقع الرهائن. والأخطر أن المبادرة اعتبرت تحولاً في الموقف الأمريكي الرافض أي حديث لوقف الحرب، وانحياز بريطانيا وأوروبا الاستعمارية للمبادرة الملغومة.
مجزرتا النصيرات، وخروج أربعة أسرى، اعتبرت إنجازاً معجزاً للنهج الإسرائيلي والأمريكي، ودللت على انخراط أمريكا في الحرب، واستمرارها، وتُدلل أيضاً على أن المبادرة والقبول بالهدنة في المرحلة الأولى تكتيك جهنمي للحصول على الأسرى، ثم مواصلة الحرب وصولاً إلى الهدف الأساس، والغاية البعيدة المدى، وهما جعل غزة غير صالحة للسكنى، وإرغام أهلها على تركها "طوعًا" بعد إعدام الحياة، وتدمير كل شيء فيها.
المبادرة الأمريكية الآتية من إسرائيل صورة أخرى من صور الحرب مهّدت للمجزرتين، ولتدمير جباليا، وخلقت وهم الحل السياسي، والانشغال بالجدل حولها، وصرفت الأنظار -بمستوى معين- للإعداد للمجزرتين، وتهدئة الاحتجاجات داخل إسرائيل وعالمياً: للمبادرة أكثر من صيغة، وأكثر من نص متداول.