مقالات

الهارب من الجحيم متهم في المخا

03/11/2025, 17:35:13

في المخا تُعامَل كلّ نفسٍ هاربةٍ من بطش الميليشيا كما لو أنها خيانةٌ تمشي على قدمين. وكأنّ النجاة من الجحيم أصبحت جرمًا يستوجب العقاب، لا حقًّا من حقوق الإنسان والوطن. بيدَ أنَّ من أبسط مقوّمات الانتماء أن يُتاح لليمني أن يعود إلى حضن أرضه، مهما تلطّخ ماضيه بظلال الخديعة، فالتوبة الوطنية أسمى من الإدانة، والإدراك المتأخر لطريق الصواب لا يُبطل صدق الندم. غير أن هذا المنطق الإنساني لا يجد له موطئ قدم في المخا، حيث سلطة طارق صالح تُقيم موازينها على الشكّ والإقصاء، لا على الاحتواء والفهم. وما أكتبه هنا ليس نزوة خصومة ولا اندفاع غضب، بل شهادةٌ نضجت من بحثٍ طويل، واستقصاءٍ مُضنٍ، وتجربةٍ أثبتت أن الحقيقة ليست ما يُعلن في الخطابات، وإنما ما يُمارس في الخفاء ويُطبَّق على أرض الواقع.

سألتُ، وكرّرت السؤال: لماذا رُفض اثنان من الصحفيين الذين ذاقوا سجون الحوثي وعذابه؟ ما ذنبُهما وهما اللذان كُتبت عليهما المعاناة باسم الجمهورية؟ أعرفهما عن قرب، كانا قبل الحرب يمارسان العمل الإعلامي في الحديدة بضميرٍ حيّ ووجدانٍ جمهوري منذ أن انقلبت ميليشيا الحوثي على الدولة عام 2014 حتى عام 2018، حينها نهبت الميليشيا مركزهما الإعلامي الذي بلغ رأس ماله سبعة عشر ألف دولار، فصادرت معدّاتهما ودمّرت حلمهما واختطفتهما مع زملائهما. غُيِّبا في سجونٍ مظلمةٍ تتغذّى على صراخ المظلومين، وتناوبت عليهما زنازين الحديدة وصنعاء ليختبرا أقصى أشكال القسوة والتجريد من الإنسانية. ومع ذلك، لم يحنيا الرأس، احتميا بفكرة الوطن، وتحمّلا الألم ووحشية التعذيب كأنهما يحميان جمهوريةً بأكملها من السقوط.

ثم خرجا من السجن في العام 2023، بعد خمس سنواتٍ من العزلة والظلمة، يحملان ذاكرةً مثقلةً بالوجع وأملًا بالبدء من جديد. طرقا أبواب الساحل الغربي ليعملا في القناة التابعة له، بصدق الصحافة لا بظلال السياسة، لكن الأبواب صُفِقت في وجهيهما. لماذا؟ هذا السؤال لم يهدأ بداخلي حتى بحثتُ في تفاصيله. هل هناك مبرّر يمكن أن يبرّر الخذلان؟ هل هناك منطقٌ يبيح إهانة من نذر نفسه للكلمة الحرة؟ أجابني مسؤولو الساحل ببرودٍ صادم: "كل من عاش في مناطق الحوثي أو كان مختطفًا في سجونه مشكوكٌ به، فقد يكون جاسوسًا أو عميلًا". هذا الرد وحده يُدين مشروع طارق صالح كله. إذ كيف يرفع راية الجمهورية وهو يعاقب أبناءها؟ كيف يتشدّق بتحرير اليمن وهو يُشيّد جدارًا جديدًا من الارتياب بين اليمني واليمني؟!

تذكّر يا طارق، أنك كنت بالأمس شريكًا للحوثي في السلاح والسياسة. كنتَ في صفّه تقتل وتدرّب وتُشرف على القنّاصين الذين يصيبون رؤوس اليمنيين، ثم عدتَ إلينا تُعلن الندم، فاحتضنك الوطن ولم يُحاسبك. لم يقل لك أحد إنك من دمّرت الأمس، بل منحناك الأمان لأننا آمنا أن التوبة الوطنية بابٌ لا يُغلق. واليوم، وأنت تتربّع على سلطةٍ بُنيت على أنقاض الجراح، تمارس ذات الوصاية التي كنتَ وما زلت تشتكي منها. هذا التذكير ليس نكأً للجرح، بل إشارةٌ إلى أن الذاكرة الحيّة هي ميزان العدالة، وأن النسيان في السياسة خيانةٌ للعبرة.

في موضوع الشكّ بالصحفيين وتخوينهم تحديدًا، يُخطئ طارق حين يرتاب منهم، لأن الارتياب هنا سلاحٌ أخلاقيٌّ مسموم. من يُنكر أبناء الأرض لا يحق له أن يتحدث باسمها. جمهورية طارق انتهازية، تُزهر في مواسم الظهور وتذبل عند لحظة الفعل. لا يقاتل من أجل الوطن بقدر ما ينتظر لحظة انتصاره ليقف في الصورة. أمّا حديثه عن شرائح "تجسس زرعها الحوثي في أجساد المختطفين" فهو قولٌ لا يليق بعقل قائد ولا بسلطةٍ تدّعي الرشد. هذا منطق الخرافة، لا منطق الدولة.

إنّ الحذر سلوكٌ استخباراتيٌّ مشروع، لكنّه حين يتحوّل إلى ذريعةٍ لرفض اليمني وإقصائه، يصبح سلاحًا ضدّ الفكرة التي نرفعها جميعًا. الوطن لا يُبنى بالشبهات، ولا تُصان الجمهورية بتشويه المخلصين. كيف يشكّ طارق في صحفيين حُكم عليهم بالإعدام لأنهم رفضوا العمل مع الميليشيا؟ كيف يُحاسب الضحية على جراحها؟ تلك مفارقةٌ أخلاقية لا يرتكبها إلا من فقد البوصلة بين العدو والحليف.

من يتبنّى سياسة التخوين ضدّ الصحفيين والمختطفين السابقين والمواطنين الهاربين من مناطق الحوثي، ومن يَصِمهم بالعمالة لمجرد أنهم عاشوا هناك، إنما يُنفّذ إرادة العدو لصالح فشل معركتنا. والمخطط والمنفّذ الرئيسي لهذا الفعل – التخوين والتشكيك – هو "عمار صالح"، الذراع الأشد سطوةً لطارق والمتسلّط على مفاصل القرار الأمني والاستخباراتي في الساحل. يرأس ما يُسمّى بالأمن القومي هناك، ويتحكّم في مساراتٍ يجب أن تكون وطنية الطابع، لكنها تحوّلت إلى آلةٍ لاتهام اليمنيين بعضهم بعضًا. عمار صالح، بدلًا من أن يُسخّر جهازه لفضح العدو وكشف اختراقاته، يوجّه عداءه نحو المقهورين والمظلومين فقط. وهذا ليس انحرافًا فحسب، بل سقوطٌ أخلاقيٌّ في قلب المعركة التي يُفترض أنها معركة كرامة.

السكوت عن هذا الفعل جريمةٌ لا تقلّ بشاعةً عن الجرم نفسه، لأننا بذلك نصمت أمام تشويه المعنى الوطني. نحن في مرحلةٍ تتطلّب احتضان كلّ الهاربين والمنشقين من قبضة الحوثي، لا صدّهم وإذلالهم. فجوهر المعركة ليس في إطلاق النار، بل في كسب الإنسان إلى صفّ الجمهورية. من يقاتل العدو بسلاح الشكّ يخسر الوطن من حيث لا يدري، لأن الوطن لا يُبنى بالخوف، وإنما بالثقة التي تُعيد لليمني إيمانه بنفسه. وإن لم ندرك ذلك الآن، فسنصحو يومًا لنكتشف أننا هزمنا أنفسنا بأيدينا قبل أن يهزمنا العدو.

مقالات

مستقبل العمل الإنساني.. إلى أين؟

تتجه أنظار كثيرين حول العالم إلى العاصمة اليمنية صنعاء، حيث أعلنت جماعة الحوثيين الأسبوع الماضي عن تقديم 43 موظفاً في بعض وكالات الإغاثة الدولية، من أصل 59 تحتجزهم الجماعة، إلى المحاكمة بتهمة التجسس لصالح إسرائيل

مقالات

ما وراء حرب الإبادة في السودان

يشهد السودان حربَ إبادةٍ يحاول صُنّاعها تقليدَ ما يجري في غزة، حتى في الحصار والتجويع وقتل الأطفال. السودان متسع كقارة، وله جوار مع سبع دول، وقبلًا مع تسع دول.

مقالات

إعادة تشكيل الأجهزة الأمنية الاستخباراتية: بين الدمج والتحديث في مواجهة الحوثيين

أفادت مصادر مطلعة أن القيادة اليمنية بصدد إصدار حزمة من القرارات الهامة خلال الأيام القادمة، تهدف إلى إعادة تشكيل عدد من المواقع القيادية في مؤسسات الدولة، في إطار توجهات إصلاحية ترمي إلى تعزيز الأداء المؤسسي وتحديث البنية الإدارية.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.