مقالات

بين تجربتين (مقاربة أم لا مقاربة).. جنوب اليمن وجنوب السودان

27/01/2025, 12:33:34

إلى أمدٍ غير معلوم، سيظل الجدل قائماً بشأن مستقبل اليمن، وما إذا كان لا يزال بإمكانه العودة إلى صيغة الدولة الاتحادية، التي توصل إليها مؤتمر الحوار الوطني العام 2012، أم أن سيناريوهات التفكك جنوباً وشمالاً ضمن دولة فاشلة هو الأمر الأكثر ترجيحاً في المدى المنظور على الأقل؟

لكن من غير المنطقي تماماً القول إن الحل يمكن أن يكون من خلال تطبيق النموذج السوداني بعد الاستفتاء على انفصال جنوب السودان عن شماله.

الفارق كبيرٌ وواضحٌ بين الحالتين (السودانية واليمنية)؛ فجنوب اليمن لا يشبه جنوب السودان، ولا هذا يشبه الجزء الجنوبي من اليمن، ولا وجه لأي مقاربة بين البلدين، فاليمن بلدٌ متجانسٌ دينياً وثقافياً واجتماعياً بصرف النظر عن خلافاته السياسية.

أما في الحالة السودانية، فهذا البلد الفسيفسائي شديد التنوع والتعقيد عرقياً وثقافياً، بل ليست لديه هوية واحدة جامعة.

جنوبيو السودان سعوا، بعد الحرب الأهلية التي قُتل خلالها أكثر من مليون مواطن، إلى "الوحدة" مع الشمال، وإلى أن تكون جاذبةً بصرف النظر عما حدث بعد ذلك، وكان ذلك من خلال مفاوضات سلامٍ شاقةٍ، تابعتُ عن قربٍ معظم جولاتها في منتجع "نيفاشا" الكينية.

أما في اليمن، فثمة من يعمل حتى من داخل حكومته "الشرعية" من أجل فض الوحدة، وفصل جنوب البلاد عن شمالها، وليس من خلال حوار أو مفاوضات، بل بكل السبل الممكنة لفرض أمرٍ واقعٍ لا يمكنه النجاح.

شغلني السودان، الذي عملت وأقمت فيه سنوات، بالكثير من الأسئلة بشأن هويته، وما إذا كان يمكن أن يظل دولةً تعدديةً، أو أن يصار إلى التقسيم أو الانفصال بموجب الاستفتاء الذي نصّت عليه محادثات السلام بين الحكومة السودانية بزعامة الرئيس السابق "عمر البشير "، والحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل "جون قرنق".

- هل كان قرنق انفصالياً؟

كان وفدا الطرفين يقيمان في جانبين منفصلين في منتجع "سيمبا لودج" في نيفاشا، وقد أقمت في منتج قريب يُدعى "إيجال لودج".

أول ما واجهني من متاعب أن وفد الحكومة، الذي كنت ارتبط بعلاقات صداقة مع بعض أعضائه، بدا كأنه تلقى توجيهات بمقاطعتي، لسببٍ غير معروف، بينما لم تكن تربطني معرفة بأي أحد من وفد الحركة الشعبية لتحرير جنوب السودان.

غير أن (ياسر عرمان) القيادي الشمالي في الحركة اهتم بوجودي، وقدَّمني بشكلٍ جيدٍ إلى زعيم الحركة "قرنق".

تحدثت مطولاً إلى الرجل، الذي وجدته مختلفًا عما كنت أتصوّره، وكان من نتائج هذا الحديث أن اتفق معي على أنه كلما خرج من قاعات التفاوض وتحلّق الصحفيون حوله فإنه سيقول "إن الطقس جيّد"؛ ما يعني أن هناك تقدماً في المفاوضات، وما لم يكن هناك تقدّم فسيقول "إن الطقس اليوم غير مناسب للجلوس على حوض السباحة"، وأن عليّ في كلا الحالتين أن أبحث عن التفاصيل.

تكررت لقاءاتي مع قرنق، وكلما التقيته ازداد الجفاء أكثر مع وفد الحكومة، ما جعلني غير قادر على إعداد تقارير متوازنة تعرض وجهات النظر المتقابلة على نحوٍ مهني.

لكن بساطة "قرنق" في تلك اللقاءات شجعتني على سؤاله عما إذا كان يخطط لانفصال جنوب السودان عن شماله، كما تذهب إلى تصوير ذلك بعض الجهات في داخل السودان وخارجه؟

ضحك الرجل ساخراً، وقال "لماذا لا تجعل السؤال معكوساً، وتسألني لماذا أخطط وأطمح لأن أكون رئيساً لكل السودان؟".
أجبته، وقد أدهشني رده: "ليكن هذا هو السؤال، وأرجو منك الرد عليه".
تحدث الرجل عن أن أفضل حل لاستقرار الأوضاع في الجنوب المضطرب هو الهروب إلى الأمام بالحفاظ على الوحدة مع الشمال.

طلبت مزيداً من الإيضاحات التي أحتاجها كصحفي قادمٍ من خارج السودان، خصوصاً جنوبه، فقال لي: "جنوب السودان يتكون من قبيلتين رئيسيتين، قبيلتنا (الدنكا) التي ينتمي إليها أغلب مقاتلي الحركة والجيش الشعبيين لتحرير جنوب السودان، وكذلك قبيلة (النويرة) المنافسة التي تمتلك النفط في الجنوب".

وأضاف قرنق: "لو أننا ذهبنا إلى الانفصال، فإننا سنتقاتل في ما بيننا في الجنوب، ولن استطيع ملء فنجان من بترول النويرة".

يؤيد ما ذكرته عن هذا الحوار ما كشفه "عمرو موسى"، الأمين العام السابق للجامعة العربية، في مذكراته من أن زعيم الحركة الشعبية قال له إنه يريد أن يكون رئيساً للسودان كله، سائلاً: "ما قيمة أن أكون زعيماً لدولة في جنوب السودان فقيرة وضعيفة ومغلقة؟".

ويذكر موسى أنه طلب من قادة السودان "العمل على ترغيب الجنوبيين في الوحدة، لكنهم اعتبروا الانفصال قدراً محتوماً"، معتبراً أن "اتفاق السلام مع الحركة الشعبية كان ملهماً لكل حركات التمرد في كل مناطق السودان".

في إحدى المرات، طلب مني قرنق إبلاغ القيادة اليمنية برغبته في زيارة صنعاء، ولم أفهم ماذا كان وراء هذه الرغبة، فصنعاء لا تمتلك أي قدر من التأثير على مواقف الخرطوم، لكنني نقلت رغبته عبر وزير الخارجية اليمني آنذاك "أبو بكر القربي"، وبعد أيام أخبرني القربي أن الرئيس "علي عبدالله صالح" يرحب بزيارة قرنق شريطة التوقيع على اتفاق السلام مع الخرطوم أولاً.

لم أنقل هذا الجواب إلى قرنق، لكن القربي، أو غيره، أبلغ المسؤولين في الحكومة السودانية.. أحد هؤلاء قال لي "لن نعطيك بعد الآن أي معلومة بخصوص المفاوضات طالما أصبحت (شغال) مع الحركة الشعبية"!

يومها أبلغت المؤسسة بتعذّر استمراري في العمل لديها من السودان، ثم قدمت استقالتي وانصرفت إلى تجربة عمل أخرى قادتني مرة أخرى إلى "جوبا" عاصمة جنوب السودان لتغطية الاستفتاء.

كان قرنق قد قُتل في حادث مروحية لم تتضح ملابساته، إلاّ أن ما شاهدته وتوقعته هو أن انفصال جنوب السودان لن يضيف إلى خريطة العالم سوى دولة فاشلة وجنوبيين سودانيين متقاتلين ومتناحرين، ولعل هذا -للأسف- ما حدث بالفعل.

مقالات

"المتعة الروحية في السيرة الذاتية"

كنا قد تناولنا ما يتعلق بكتابة المذكرات السياسية، التي تم تحميلها فوق ما تحتمل، وهنا نتناول باختصار المتعة والفائدة الروحية والفكرية والإنسانية فيما يتعلق بقراءة كتب السيرة الذاتية، التي اشتهرت ولمع أصحابها، وأصبحت جزءا لا يتجزأ من شخصياتهم

مقالات

أبو الروتي (19) "تَفْلَةُ السيد"

"وذات يوم، أبصرتْ أختي بُنُود انتفاخاً غير طبيعي في عينيّ، فارتعبت، وراحت تسألني وتقول لي: مُوْ بِهِنْ عيونك -يا عبد الكريم؟!. قلت لها: هذا من تَفْلَة السيد".

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.