مقالات
تأملاتٌ في تبلُّد العين وخيانة الذاكرة
عجيبةٌ هي أطوار الحياة، وغريبْ ما يعانيه الإنسان فيها من حروبٍ وأزماتٍ من كل نوع، لها نتائجها الخطيرة وأثارها السلبية عليه، الظاهر منها والخفيُّ على حدٍ سواء، أغلبها من صنع الإنسان نفسه، وهناك ما هو تحديات جديدة في العالم يفرضها التقدم العلمي والتكنولوجي الجامح الذي يكاد يلغي العقل البشري ويتحكم في مصير الإنسان ومستقبل الإنسانية.
وبعيداً عن دخان الحروب وصداع السياسة أحاول الحديث هنا عن مشكلاتٍ غير مرئية بوضوحٍ لدى كثيرين منا، تتسبب فيها توترات الحياة اليومية وضغوط العيش فيها على اختلاف أنواعها.
فعلى سبيل المثال، يصيب عيوننا التبلد عند (الاعتياد) على البقاء في ذات المكان طويلاً، فلا نعود، نتيجة الرتابة والملل، ندرك مَواطن الجمال ولا ملامح العراقة أو الأناقة فيه، ولا تظل أعيننا قادرةً على استلهام ذلك بحكم الارتباط به وحميمية العيش فيه سنواتٍ طويلة.
وفي المقابل تماماً، وهذا ما أحاول التركيز عليه هنا، هو أن كثرة (التغيير) والسفر والانتقال من مكانٍ إلى آخر في ظروفٍ وأوقاتٍ مختلفة كثيراً ما تؤدي إلى تداخل الأزمنة والأمكنة عند أغلبنا، أو بعضنا على الأقل، ويصبح إدراك اختلافها عن بعضها والفصل بينها أمرين واردَيْن وصعبيْن معاً في لحظةٍ معينة، سيما في لحظات الاستعجال والقلق التي تضعنا فيها ضغوط السفر والخشية من نسيان بعض أشيائنا خلفنا أو عدم اللحاق بطائراتنا وقطاراتنا وحافلات سفرنا.
في الأسبوع الماضي كنت على موعدٍ مهمٍ للقاءٍ طال انتظاره مع زميلين صديقين يعملان في مكانٍ معلومٍ في (جنوب غرب لندن) سبق أن زرته مرة واحدةً قبل عام، ويُفترض أن لا أكون قد نسيته، لكن ما حدث هذه المرة أنني توجهت إلى موعدي قبل ثلاث ساعات تحسباً لزحمة المواصلات وحرصي الزائد على عدم تفويت اللقاء المنتظر ، لأكتشف بعد حينٍ أنني ذهبت إلى الجهة المقابلة في (شمال شرقي لندن) فقد اختلط لديَّ موعد ومكان اللقاء الجديد بموعد ومكان لقاءٍ سابقٍ راسخٍ ومؤثرٍ في اللاوعي عندي، كان مع صديق مهمٍ آخر، قبل عامين تقريباً.
قد لا يصدِّق البعض أمراً كهذا، خصوصاً مع وجود تطبيقات اليكترونية تساعد على تحديد الأمكنة وحتى زمن الوصول إليها، بدايةً ونهاية، وربما يرجعه آخرون إلى التقدم في السن وضعف الذاكرة، لكن هذا غير صحيح بالضرورة، فالصحيح جيداً أن هذا هو ما تجنيه على ذاكرتنا كثرة الأسفار والانتقال، حيث تجعل ثقة أحدنا بقوة ذاكرته ينساق وراءها، ويهمل الاستعانة بتلك التطبيقات الجديدة.
في مثالٍ آخر، صديقٌ لي أقام قبلي في بريطانيا سنوات طوال، جاب معظم مدنها، وخبِر طرقاتها وشوارعها جيداً، وعندما عاد بعد سنواتٍ اخرى من الاقامة والعمل في إحدى دول الخليج العربية، اتفقت أسرتي مع عائلته الصديقة على القيام برحلةٍ مشتركة إلى مدينة (برايتون) الساحلية القريبة وقضاء بضع ساعات فيها، فأصر هذا الصديق على أن يتقدمنا بسيارته ونحن من ورائه بسيارتنا، وقد عرضت عليه الاستعانة في الاستدلال على الطريق بواسطة جهاز (توم توم) الذي كان سائداً قبل أن تحل محله التطبيقات الحديثة في أجهزة الهاتف المحمولة الذكية، لكنه رفض ذلك ساخراً، وقرر قيادة موكبنا اعتماداً على ذاكرته وخبرته بالطريق التي طالما قاد سيارته عبرها، ذهاباً وإياباً، لعشرات المرات. وبعد أن قادنا، ونحن خلفه، أكثر من ضِعفَي الطريق المفترض أدرك أنه ذهب بنا باتجاه الشرق وليس الجنوب، فتوقف ليطلب جهاز الـ (توم توم) للتحقق من موقعنا والجهة التي ننوى الذهاب إليها، معتذراً بشدة عن خيانة ذاكرته له، لكننا كنا قد أضعنا الكثير من الوقت، فقررنا العودة بخفي حنين إلى لندن، ولكن بمساعدة (توم توم) دون الاعتماد على ذاكرة صاحبي.
ربما يكون السفر والترحال والتجوال في إجازة جيداً وحتى ضرورة للتجديد في حياتنا شرط أن يكون حراً وطوعياً ، لكنه عندما يصبح إجبارياً في إطار وظيفة وأداء مهامٍ روتينية، متعددة المحطات، وقصيرة الوقت، يصبح مع مرور الوقت عبئاً ثقيلاً ويقود إلى اكتئابٍ وأمراضٍ نفسية، وهذا ما يحدث غالباً للطيارين والبحارة الذين يمضون ساعاتٍ طوالاً تحليقاً في السماء ، أو خوضاً في عباب البحار والمحيطات ، وكلا الفئتين، الطيارون والبحارة، عُرضةْ بسبب ذلك لاضطراباتٍ نفسية وعقلية وغياب متكرر وطويلٍ أحياناً عن البيت والعائلة والأصدقاء ما يدفع بعضهم إلى الانتحار عمداً أو ارتكاب أخطاء بشرية في قيادة السفن أو الطائرات، وهناك قصصٌ كثيرة في الشبكة العنكبوتية عن طيارين قرروا الانتحار وهم في الأجواء ليتسبب ذلك في مقتل مسافرين.
بعض هؤلاء كالبحارة الذين يعانون من مشكلاتٍ مشابهة أدمن عديدون منهم على التدخين وشرب الكحول أو القمار، وذهبوا بالتالي إلى الإفلاس وخسارة كل أو معظم ما جنوه من تعب العمر وكَدِّ السنين.