مقالات

تشرشل والعليمي

07/09/2025, 07:20:43

لم يجد تشرشل وقتًا للجلوس على موائد مع من قد يخرجون لاحقًا للحديث عنه ومقارنته بزعماء آخرين. وإن وجد الوقت، كان سيرفض الجلوس. عبقرية القادة وطبيعة اهتماماتهم الكبرى تمنحهم حساسية بالغة تجاه أولئك الذين يختزلون كل شيء في مائدة دسمة ومقابلة عابرة.

المقارنة بين ونستون تشرشل، رجل بريطانيا في أصعب ساعات القرن العشرين، لحظات الحرب العالمية الثانية، ورشاد العليمي، الرجل الذي جلس على مقعد الرئاسة اليمنية بالصدفة في أشد ساعات انهيارها، تبدو مفارقة كاشفة.

ماذا يحدث حين يواجه التاريخ قائدا صُنع للحرب وقيادة شعبه للمقاومة والتحرير، ورئيسا صُنع للهمس والتسليم بشروط الأعداء؟

قبل سنوات من الحرب العالمية الثانية، وقف تشرشل في مجلس العموم محذرا من سياسة الترضية مع هتلر. لم يكن قد أصبح رئيسا لوزراء بريطانيا حينها. كان عضوا في مجلس العموم، وكان على رأس الحكومة البريطانية مسؤلون يشبهون قيادة المجلس الرئاسي اليمني، وعلى استعداد لمهادنة هتلر ومنحوه اتفاقية سمحت له بضم إقليم من تشيكوسلوفاكيا مقابل وعد كاذب بالسلام.

قال تشرشل أمام مجلس العموم حينها: لقد خُيرتم بين العار والحرب، فاخترتم العار. وستنالون الحرب أيضاً.

لم يكن تحذير الرجل مجرد بلاغة عاطفية ولا غضب شعبوي. أدرك أن الاستسلام لشر الأعداء يعني مضاعفة ثمنه لاحقا. حين تنازل رئيس مجلس القيادة اليمني عن قرارات البنك المركزي بموجب تعليمات خارجية، غضب الناس، فوصف غضب شعبه بانفعالات عاطفية وشعبوية. 

تشرشل أصبح قائدا استثنائيا ورمزاً في ذهنية الأمة البريطانية والأوروبية بتوليه قيادة شعبه للمقاومة وعدم الاستسلام. لم يهادن. لم يصف شعبه بالشعبوية. استنهض "شعبوية" وحماسة البريطانيين وبنى عليها السير نحو المقاومة في أسوأ لحظات الهزيمة وقادهم إلى النصر. 

كسينجر رأى في تشرشل مثالًا فريدا للقيادة حين تندمج الشخصية الفردية مع لحظة تاريخية حرجة. كان يقول إن القيادة وإدارة يوميات الدولة لا تعني ادارة التفاصيل الروتينية اليومية والتوقيع على الوثائق، وحضور الاجتماعات، أو  توزيع الميزانيات والمصروف. هذه كلها جزء من الشكل الخارجي للعمل الإداري، وليست جوهر القيادة.

القيادة في جوهرها تشمل القدرة على تمييز ما هو ضروري ومصيري مما هو عابر وثانوي. 

بناء القدرة على اتخاذ القرارات التي تحدد مصير الدولة والأمة، قيادة حرب التحرير، اتخاذ موقف استراتيجي حاسم، تحديد أولويات الحرب والسلام، إدارة موارد الدولة بطريقة تمنع الانهيار وعلى نحو يخدم أولوية التحرير. 

القائد لا ينشغل بما يمكن أن تفعله آلية الإدارة البيروقراطية والروتينية اليومية بنفسه، يترك الروتين للموظفين ويركز هو على القرارات المصيرية. هذا ما يميز تشرشل عن أي رئيس ضعيف. كان يعرف متى يغوص في التفاصيل الضرورية ومتى يترك الأمور العادية لتدار بالبروتوكول والسكرتارية.

 رغم أخطائه وتناقضاته وفظاعاته أحياناً، لكن تشرشل حوّل ذاته إلى بوصلة للأمة البريطانية والأوروبية بأكملها. جسد ما يشبه فكرة حنة أرندت عن السياسة، إذ الفعل الحقيقي ينفجر حين يجد شخص استثنائي نفسه في مواجهة حدث استثنائي.

تشرشل قدم أجوبة فعلية لمفارقة السياسية وكيف يمكن لها أن تتطهر أحيانا في أتون الحرب، حين يجد الشعب نفسه مضطرا لأن يختار الحرية على الراحة، والكرامة على التنازل.

يقف الرئيس رشاد العليمي كنموذج نقيض.  لا يشبه تشرشل إلا بكونه يجلس على كرسيّ السلطة. سلطة واهنة، محاطة بمرسوم بروتوكولي لا معنى له. وجوده لإدارة تفاصيل صغيرة روتينية مملة، لتوزيع خمسين ألف وجبة فاصوليا على شعب يموت جوعاً ويبحث عن قيادة للتحرير. ثم اعتبار ذلك إنجازا يستحق الحديث عنه.

تشرشل رئيس لوزراء بريطانيا، لكنه ليس الرئيس الذي يظن أن مكالمته مع سفير، ومقابلة مع نائب سفير أو استقطاب شخص هامشي، هو انتصار استراتيجي. 

هل يمكن أن يفرح تشرشل بمجرد اتصال من سفير الشقيقة فرنسا، كان الرجل ينتظر اتصال التاريخ نفسه ليعلن التحدي. لم يتعامل مع السياسة كأنها كشوفات إعاشة واستيعاب مجموعة من هواة التواصل الاجتماعي ودعاة العلاقات العامة. تعامل مع القيادة والسياسية كقدر وجودي وتحدي مصيري لا مهرب منه.

قالت أرندت إن أخطر ما في الشر ليس فظاعته، وانما تفاهته. الشر يحتاج أحيانًا لبيروقراطيين صغار يحولونه إلى عادة يومية. الشر يتجسد بلا وعي من خلال ضعف رئيس دولة، من خلال امتصاصه للإهانات واستعداده للمهادنة والتسويات المختلة.

لم يجد تشرشل وقتاً لمقابلة هواة العلاقات والإعلام ولم يستقبل في مكتبه مهرجا شتمه بأقذر الألفاظ. لا يمكن أن يعين شخصاً وصفه بالرخاوة والوساخة نائبا لوزير الخارجية البريطانية. تشرشل كان يرى الحرب مصيرا لا يمكن تجنبه، ويعتبر السياسة فعل مواجهة وليس مكالمة هاتفية مع سفير تحفظ ماء الوجه.

في كتابه القيادة ودراسات في الاستراتيجية العالمية، يشرح كسينجر أن القادة العظام يعرفون كيف يحولون التهديد إلى معنى، ويربطون القرارات اليومية بمصير أمة كاملة. القادة الصغار يغرقون في تفاصيل بائسة تجعلهم أسرى اللحظة، غير قادرين على إدراك أي أفق أبعد من موائدهم الصغيرة. 

الفجوة مؤذية ومهينة بين رئيس يقف أمام شعبه ليقول: سنقاتل في البر والبحر والجو، ورئيس يقف ليقول: سلمنا الطائرات للأعداء لأنهم هددوا بقصفها. 

هناك رئيس يعيش على مستوى التاريخ، واخر يعيش في تفاصيل روتينية ضيقة. رجل يرى السياسة فعل مواجهة ومراكمة مكاسب وطنية وفتح آفاق جديدة وتوسيع قاعدة التحالفات وآخر يعتقد أن السياسة تدار بالهمس في أذن مستشارة هنا و"ابتسامة نصف مازحة" مع ناشط هاوٍ في مائدة هناك. في فلة بحي راق في عاصمة دولة أجنبية يقيم فيها. 

هذا عبث يقتل معنى القيادة. تنزلق المؤسسة كلها إلى الفراغ حين يتحول القائد إلى ظل وغطاء. التاريخ في لحظاته الكبرى والحاسمة، يفرق بين القادة والظلال. تشرشل لم يكن خيارا سهلاً، كان ضرورة. بريطانيا قاومت النازية لأنها وجدت قائدا لم يقبل بالعار. 

كسينجر كان يردد أن القائد الحقيقي يواجه الزمن، ويمنحه معنى أكبر من نفسه. تشرشل فعل ذلك، فجعل من ذاته بوصلة أمة. رفض أن يحول  ذاته إلى ظل يتضاءل كل يوم.

التاريخ لا يرحم من اختاروا العار. تشرشل عرف ذلك وأدرك أن الحرب ستأتي من يختار العار. ستأتي إليه ليس لأنه يريدها، انما لأن العدو يفرضها. 

مقالات

"يا أخي اتخارج".. كيف لخص محمد عبدالولي مأساة اليمني في عهد الإمامة؟

في مجموعته القصصية "شيء اسمه الحنين"، وفي قصة بعنوان: "يا أخي اتخارج"، يلخّص محمد عبدالولي معاناة اليمني في عهد الإمامة، وكيف كان عسكري الإمام يعبث بالمواطن دون أي سبب، يتهجم إلى منزله، ويستدعيه للحضور إلى مسؤول الإمام.

مقالات

علي عبد المغني التاجر - 11

بعد موت خطيبتي تغريد وفشل مشروع زواجي، ذهبتُ إلى صنعاء ومعي مذكرة من رئيسي في العمل إلى رئيس هيئة الأركان بشأن ترقيتي من عسكري إلى رتبة رقيب.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.