مقالات
خدعة نفسية.. الحوثي والنبي
إلى ما قبل عشر سنوات، كان مقام النبي محمد-عليه الصلاة والسلام- محاطا بعناية شديدة؛ لإبقائه بعيدا عن التجاذبات السياسية، حتى في أكثر اللحظات قتامة في التاريخ الإسلامي، هذا الحرص كان يهدف إلى الحفاظ على هالته الدِّينية والتقديسية من التشويه أو الاستغلال.
علاوة على ذلك، كان التحريم التقليدي للرسم والتصوير، الذي استمر لقرون، أحد الأسباب الرئيسية التي منعت تقديم أي تمثيل مرئي لشخصية النبي، مما حال دون تكوين أي صورة تجسيدية تربط بين اسمه وصفاته في أذهان الناس، وتوجد له صورة ملموسة ومرئية كما هو الحال مع شخصيات دينية وتاريخية أخرى؛ مثل المسيح -عليه السلام- أو بعض الملوك والفلاسفة القدامى.
هذا الغياب للصورة المجسّدة جعل شخصية النبي في مرتبة فوق التجسيد، ورفع مقامه عبر العصور، إلى درجة أن البعض قد خلط بين مقامي النبوة والألوهية في أذهانهم؛ ومع ذلك تتعامل مليشيا الحوثي مع هذه الحالة بأسلوب خبيث، حيث استغلت هذا الغياب لصالحها، عبر عملية هندسة نفسية معقّدة تهدف إلى ربط صورة زعيم الجماعة باسم النبي ومقامه، وهو ما لم يسبقهم إليه -باعتقادي- أي فصيل أو حركة طوال القرون الأربعة عشر الماضية من عمر أمة محمد، باستثناء بعض الحركات الباطنية.
تستخدم الجماعة مجموعة من التقنيات النفسية المتقنة لاستغلال هذا الغياب البصري لشخصية النبي؛ من أبرز هذه الأساليب وضع صورة زعيمهم بجانب آيات قرآنية، أو أحاديث نبوية تشير إلى النبي، مثل قوله تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، أو شعارات مثل "نحن -اليمانين- يا طه"، كما تستخدم صورته مع خلفيات بألوان محددة، مثل السماوي والأخضر؛ لخلق ارتباطات رمزية، مع تصوير الزعيم من زوايا منخفضة لإضفاء هالة من القداسة عليه، ووضع اسم النبي خلفه ضمن تصميم معيّن، يبدو وكأنه احتفاءٌ بالنبي، فيما يعمل هو على ربط الصورة بالاسم في وعي المشاهد.
هذه الأساليب النفسية تهدف إلى تعزيز صورة الزعيم في أذهان الأتباع، بحيث يصبح التجسيد الحسي لشخصية النبي وكأنه يتمثل في شخص زعيم الجماعة.
بالإضافة إلى ذلك، يتبنى زعيم الجماعة سلوك الاختفاء والامتناع عن الاختلاط بالناس، مما يعزز من هالة الغموض حوله؛ يقدّم اللقاء به كأمر نادر، وهو ما يعزز في أذهان أنصاره صورة الزعيم الاستثنائي، الذي لا يمكن الوصول إليه بسهولة.
هذا السلوك يضيف بُعدا آخر من التقديس حول شخصيته، حيث يصبح ظهوره نادرا واستثنائيا، مما يسهم في تكريس مكانته كرمز مقدّس ومحصن، ويمنع الناس من رؤيته كشخص عادي، مما يعزز الصورة المصطنعة التي تربط بينه وبين النّبي.
حين يتحدث أتباعه عنه في المناسبات العامة أو الخاصة، يبدأون بالثناء على الله -سبحانه وتعالى- لأنه منحهم هذا القائد الملهم؛ ويصورون زعيمهم على أنه نعمة إلهية، وبالتالي فإن الولاء له والقتال لأجله ليس مجرد واجب، بل هو شرف يختص به من أحبهم الله؛ هذه الرسالة النفسية تسهم في ترسيخ الولاء الأعمى، وتجعل الطاعة لـ"علم الهدى" و"قرين القرآن" شرطا للتدين، وطريقا إجباريا للنجاة في الدنيا والآخرة، مما يعمق الشعور بأن زعيمهم ليس فقط قائدا سياسيا، بل هو ممثل عن الله يستحق الطاعة المطلقة.
باعتقادي أن الوعي بآليات التلاعب النفسي هو الخطوة الأولى لحماية أنفسنا من الوقوع ضحية لهذه الحملات الدعائية من خلال تعزيز آليات التعليم، ونشر الثقافة والوعي، وممارسة التفكير النقدي، وتشجيع النقاش المفتوح، وتعزيز احترام القيم الإنسانية وغيرها مما لا يمكن حصره من أدوات المعركة ضد توظيف الدين ومفرداته في الصراع السياسي؛ لأن المعركة فكرية وثقافية في المقام الأول، هكذا بدأت، وهكذا فقط يمكن أن تنتهي بعد انتهاء موجة العنف السائدة، وما لم نساهم جميعا وكلٌ من موقعه وبحدود قدراته، في هذه المعركة من خلال نشر الوعي وتعزيز القيم الديمقراطية لحماية مجتمعاتنا من الانجرار إلى دوامة التطرف والصراع، فإننا -ولا شك- منتقلون من موجة عنف إلى موجة تالية، تتعطل فيها قدرات مجتمعنا على التطور ومسايرة العصر، ونتحول من شريك لهذا العالم في الحياة والتنمية إلى مجرد مشكلة هامشية لا يأبه لها أحد إلا بقدر ما تسببه من صداع -إن سببت صداعا.