مقالات
ذكرى رحيل طلال مداح الـ25 .. من وادي يبعث بحضرموت إلى ذاكرة الغناء العربي
اليوم 11 أغسطس الذكرى الخامسة والعشرون لرحيل صوت الأرض طلال مداح. الرجل الذي جعل من "مقادير" جواز سفر للأغنية السعودية إلى العالم.
"يا أهل الهوى كيف المحبة تهون.. كيف النوى يقدر ينسي العيون" ما أحن وأشجى هذا المقطع بمقام الصبا.. آه يا بو عبدالله.
"مقادير" هي ثاني ما غناه طلال خارج الحدود، بعد "يا قمرنا" في 1973 من ألحان بليغ حمدي، التي لم تكتب لها الأقدار النجاح الكافي آنذاك، حتى جاء عام 1974، حين أطلق طلال مفاجأته "مقادير" من على خشبة نادي الترسانة بالقاهرة أمام ما يربو على أربعين ألف متفرج.
أطلقها ثم عبرت به المسارح من لندن وموسكو وبراغ وبرلين، إلى واشنطن ودمشق وبيروت وتونس والجزائر والرباط وطرابلس، وكأن المقادير كانت تعرف أنه سيرحل ويترك في القلب فراغا أصعب من أن يُملأ.
لكن من يستمع إلى مجمل إرثه، وقد دنوت أنا من الاستماع لقرابة أربعمئة من أصل زهاء ألف من أغانيه، سيدرك أن طلال لم يكن "مقادير" فحسب.
ثمة مجموعة طربية أقل شهرة لكنها ثرية، كنوز أخرى تستحق أن تُسمع وتُذكر: "مرحبا بك يا هلا"، "أنا العاشق"، "عذري لله"، "تعبت يدي"، "يا ملاك الحسن"، "غريبة تشك في إخلاصي"، "ألمح جمالك"، "باللبناني يلا يا ابني يلا"، "مقبول منك"، "من بعد مزح ولعب"، "أحبك لو تكون حاضر"، "سلام لله يا هاجرنا"، وغيرهن الكثير... أما عن نفسي، تبقى "مشغول وشاغلني" ذروة إحساسه وصدق فنه، أراها أروع ما لحن وغنى طلال، وكأنها نافذة صغيرة على قلبه الكبير، يطل منها علينا بكل ما فيه من شوق وحنين.
في الحقيقة، لا يشبه طلال أي فنان خليجي آخر، كان زرياب عصره وصوت الأرض الذي لم يكن مطربا عاديا.
يُحسب له أنه أول فنان سعودي يمد الجسور إلى كبار الموسيقيين العرب خارج الحدود، فغنى لمحمد الموجي نحو عشرين أغنية، من أبرزها: "لي طلب"، "ضايع في المحبة"، "يا جارة القمر"، "أغاريد الوفا"، "موطن الإباء". كما شرف صوته ألحان محمد عبدالوهاب في "ماذا أقول" و"منك يا هاجر". أما ألحانه هو، فبلغت نحو 346 لحنا، حملها إلى أصوات كبار المطربين العرب، منهم: ذكرى، وردة، فايزة أحمد، هيام يونس، سميرة سعيد، رجاء بلمليح، وعبادي الجوهر.
كان طلال هذا الإنسان النبيل، أبا فنيا لمواهب كثيرة، ألهمها ورعاها وأرسلها إلى الجمهور، ولم ينتظر شكرا من أحد. بيد أن عتاب، والمبصران حيدر فكري وابتسام لطفي ظلوا أوفياء، وعبادي أيضا ما زال يكن له مشاعر الامتنان، والوفاء عملة نادرة.
ومع كل هذا المجد الفني، بقي طلال يحمل في صوته جرحا دفينا ودفئا عجيبا، كأن الأوتار تخبئ خلفها طفولة يتيم ذاق قسوة الفقد مبكرا، ورجلا تعلم الصبر على وخز الأصدقاء طوال مشواره.
ومع ذلك، كان هو من علمنا أن الحب يمكن أن يُقال حتى بالسكوت في "زمان الصمت"، وأن النهاية يمكن أن تكون موجعة كما في "خلصت القصة"، هذه الأعجوبة التي سجلها في القاهرة منتصف الثمانينيات وهو يبكي، وقتها كان عائدا من عزلته الاختيارية لخمس سنوات في المغرب. "انتهينا وجفت الدمعة الحزينة.. الحزينة.. انتهينا" "مسافر مفارق مودع حبيب" كان يغني ويبكي.
في مثل هذا اليوم من العام ألفين، العام الذي أشرقت فيه عيني على الدنيا، أغمض طلال بن جعفر الجابري عينيه عن العالم، بعد أن أهدانا آخر أنفاسه على هيئة نغم حنون، وهو يشدو "الله يرد خطاك" فوق مسرح المفتاحة في مدينة أبها، كمن يسلمنا قلبه على شكل لحن، قلبه الذي سلمه بالفعل لجمهوره حين أصر على الحضور للحفلة وقد حذره الطبيب.
رحل وترك ورودا تتفتح كلما صدح "وردك يا زارع الورد"، أغنيته البكر التي ربطته بالصدفة بصديقه ابن التربة نفسها، أبو بكر سالم، الذي بدأ هو الآخر بأغنية عن الورد "يا ورد محلا جمالك بين الورود" وبعمر العشرين أيضا.
عام واحد يفصل بينهما في الميلاد، أبو بكر في تريم عام 1939، وطلال في مكة عام 1940، وذلك بعد اغتراب والده من وادي يبعث بحضرموت.
جمعتهما الصداقة النقية، و"دا اللي حصل من بعد" وافترق بهما النصيب، أحدهما نال حقه في الوصول، والآخر غُيّب كثيرا عن مكانته المستحقة.
وربما هذا الغياب هو ما جعل الحنين إليه مضاعفا: "وترحل صرختي تذبل.. ولا باقي أنين"