مقالات
عبدالرحمن الغابري.. ذاكرة بلد
في البلاد عشرات ومئات وربما آلاف المصوِّرين، يقف الغابري في رأس القائمة، إن كان هناك من أب روحي للمصوِّرين اليمنيين فهو هذا الرجل، عبدالرحمن الغابري: المصور اليمني الشهير.
الغابري: ليس مصوراً يحمل كاميرا على كتفه، ويوثّق مشاهد الحياة، هناك ظلال روحية في كل لقطة يوثّقها، يُخيل لي أن الغابري قبل أن يلتقط أي مشهد يعاينه ببصره، يترك عينيه تلامس الأشياء، يستملكها، ثم يمسك كاميرته ويلتقط الأثر، هناك حياة تكاد تنطق في كل صورة يلتقطها، حياة لا يخصم من حضورها الزمن، ولا تبهتها الأيام، إنه أشبه بروح عائمة تسري في الوجود، وتبث الحياة في الجمادات من حوله.
التصوير ليس مهنة ميكانيكية جامدة، هو عملية متداخلة تمتزج فيها النفس البشرية بالآلة، هناك ذات فاعلة وموضوع منفعل، هناك بوصلة داخلية تضبط الأشياء في الواقع، لكأن المصوّر هنا لا يكتفي بنقل الواقع بل يعيد خلقه كعالم جديد، ليس خلقا ينفصل فيه الشيء عن عالمه الأصلي، بل يظل متصلًا به حتى وقد اقتطع منه.
حين أقف مع إنتاج الغابري في عالم الصورة، أتأمل علاقته بالكاميرا، أجد في نموذجه حالة فريدة، مثالا يستوفي شروط الخلود.
هناك فكرة مركزية لهايدغر، أراها تنطبق عليه وتفسّر نموذجه، لقد تمكّن الرجل من تطويع التقنية وبما يجعلها خاضعة للإنسان، لم تتمكّن الآلة من استلابه، لم يتحوّل لنموذج صناعي، ظل الغابري نابضاً بالحياة، حتى وهو محاط بالتقنية من كل مكان.
يواكبها ويصهرها بطباعه الراسخة، بقوة حضوره الإنساني كمخلوق معجِز ومتفوق على كل ما ينتجه البشر في عالم المادة.
في حياتنا المعاصرة، يعتقد البشر أنهم أسياد الطبيعة، وأن كل ما هو تحت تصرفهم خاضع لسيطرتهم، فيما الحقيقة أن الإنسان صار مستعبدا بما يخلقه من أشياء، لم تضاعف التقنية من نفوذه إلا بقدر ما سلبته من قواه الداخلية، وأضعفت من فاعليته الروحية. الغابري كما أسلفت، من الواضح أنه نجا من هذا الأثر.. قراءة متأنية لحياته ومسيرته تنبئك بهذه الخلاصة.
ينتمي الغابري لجيل الأوائل، وهذا الجيل عصامي جدا، ويمتاز بروح مثابرة، صلابة شخصية اكتسبوها من طبيعة الحياة في الزمن المنصرم، حياة تستنفر فيك مكامن التحدّي، وتوقظ فيك حس المجابهة، لجانب هذا تتجلى فيه مرونة نفسية عالية وقدرته على اكتساب طبيعة الجيل الجديد، والقدرة على التناغم معه بسرعة أكبر.
هناك صفة يتوجّب أن تستلهما الأجيال من الغابري، فلعلّ أهم مزايا هذا الرجل المهمّة هو أنه شخص يشتغل بطريقة مرتبة، لم يكن ينظر لعمله كموظف ينجز مهمته ويمضي، فمنذ بداية مسيرته ظل يعمل بشكل دائم على أرشفه إنتاجه المرئي، هذه المنهجية المتبعة من قِبل الغابري تكشف عن شخصية حساسة وذهنية إدارية ناجحة، وهو ما جعل منه ذاكرة لبلاد كاملة، بخلاف كثر من المصوّرين، قبله وبعده، ظل إنتاجهم متناثرا هناك وهناك، ولا يحيل لأي منهجية قابلة للخلود والاستثمار على المدى البعيد.
عاصر الغابري رؤوساء وحكومات كثر، شمالاً بالتحديد، ثم في زمن ما بعد الوحدة، حتى هذه اللحظة، رجل بهذا التاريخ الشخصي والمهني الثري، يعتبر بمثابة ذاكرة تاريخية ومرئية عمومية لشعب كامل، ولا أظن مصوراً آخر يملك هذه الميزة وتنطبق عليه هذه الصفة.
يمكن للغابري أن يستنطق تاريخه المرئي هذا، ليحيله لسيرة أدبية وفنية تؤرّخ للمشاهد واللقطات الاستثنائية والمركزية في أرشيفه المرئي، فلا بد أن أرشيفه زاخر بمحطات ومواقف كثيرة تحمل دلالات تتجاوز اللحظة وتكتسب معنى عام تحتاجه الأجيال، وتحتاج إفصاحاً يشرح للمشاهد ما وراء اللقطة العابرة.
أخيراً: تعرض الغابري للتوقيف في صنعاء القديمة قبل يومين، المدينة التي منحها الرجل جزءا من حياته، في كل حارة منها وضع بصمة في كل واجهة ترتسم عيناه جيداً، يحفظ أزقتها وملامح بناياتها في تلافيف ذاكرته، مدينة تعرفه ويعرفها، وبينهم أُلفة ضاربة في جذور الزمن، لكنها اليوم تستوقفه كما لو أنه غريب تنكّرت لكل روابطه الروحية معها، ليست صنعاء القديمة هي من جرحت روح المصوّر العريق، بل أشباح أخرى، دخلوها فجأة وقطّعوا روابط أبنائها بها، هم الذين لم يتعرفوا عليه وليست المدينة.. ليست صنعاء القديمة من تلك المدن الناكرة للعشرة، إنهم حراسها الجدد، عقول صماء، لا تضع اعتباراً لأعراف المدينة ولا يترددون في خدش سكينتها، شيوخها، روادها العظام، وفي مقدمتهم الغابري، روح المدينة ومخزونها الجمالي الخالد.
سيغادر الجميع، وسيظل الغابري لوحة مثبتة في قلب صنعاء، وفي كل خلية من جسد اليمن الكبير.
تعظيم سلام إليك يا تمثالنا الجليل.