مقالات
عن برنامج حيث الإنسان
منذ أول موسم للبرنامج، منذ الدهشة الأولى، صِحت بأعلى صمتي: أبووس راسك يا من اخترت العنوان....!
سأعترف قبل الكتابة: حاولت التربُص، هكذا دون نيّة محترمة، كنت حينها مكتظا بالغضب واللعنات المعتّقة من مشاهدة برامج "الخير"، وضعت الخير بين قوسين، لأني لم أجده في معظم البرامج -إن لم تكن جميعها- فقط امتهان لكرامة الإنسان، وسحق لما تبقى من أجساد المتهمين بالحياة...!
"تلاميذ الشجر"، هكذا كان عنوان أول حلقة في أول موسم. المشهد الأول، الشمس بكل حضورها المطل على هذه البلاد البعيدة، تلميذ يمشي بحذائه المنهك من شوك المسافات، وحصى الجبال، وحمّى طموحه بمستقبل يحترمه...!
تحت شجرة سقتها الشمس، تمتد أغصان ظلها إلى كل دفتر بين يدي ربه، الصغير القابع في صف أول، وكل الصفوف معا، تتداخل الأصوات، ربما التقط أحدهم درسه الخاص به من زحمة النّبرات...!
شهور من العمل الجاد، تناسق وتناغم أحسسته رغم كل المشقة، ووعورة الطرقات، عشر دقائق أو أكثر بقليل هي مدة العرض في البرنامج، عشر دقائق فقط، وكانت المدرسة...!
ابتسامات أطفال، تناهيد راحة وأمان تنطلق من صدور الأهالي، لمعة دمع الرضا في وجوه المدرِّسين، بالونات احتفال، وشريط افتتاح، وكرامة يتقاسمها الجميع، هناك فقط "حيث الإنسان".
هل هو الفخ يا "بلقيس"؟!
مازلت مسكونا بالشك، لا ذنب لي غير ما ترسّخ في ذاكرتي من استياء فرضته البرامج الرمضانية...!
كانت الحلقة الثانية (رائدة المعجنات في تريم)، شاهدت ما فعله الدخان بتلك المرأة وهي تحاول الرزق من تنور الحطب، لم أكمل مطيبة المحلبية حتى اكتمل مخبز أنامل حواء، وابتسمت عيون تلك العزيزة...!
يبدو أن في الأمر إنّة، انتهى الموسم، لقد خذلني البرنامج، لا إنة يا "بلقيس"، يبدو أن "المكتوب باين من عنوانه" كما يُقال، إنه فقط "حيث الإنسان"..!
في كل موسم أحاول الكتابة، ألملم دمعي من كل حلقة، أبحث عن شكر أنيق وقبله اعتذار يتلو آية الكرسي، وهنا نحن في الموسم السادس، ولي معه حكاية من عشق مبين.
في سبتمبر 2022، كنت في تعز، التقيت أصدقائي الصم في جمعية "الطموح" لرعاية وتأهيل الصم، أسعدني طموحهم، أبهجتني محبّتهم، وأبكاني حديثهم عن معاناتهم في التعليم، عُدت إلى صنعاء، لا شيء غير منشورات فسبوكية أفعلها، وتواصل بلغة الإشارة، لكن "بلقيس" لا تخذل قومها، وكانت مدرسة "بلقيس" للصم في تعز تحفة حالمة ومجمّعا قادما في الوقت القريب...!
"حيث الإنسان" مجمّع للنازحين من الحرب، معمل للصناعات، بيت لعزيز قوم لن يذل، محل لطالب رزق حلال، مدرسة في أعلى الجبال، وطريق يؤدي إلى اليمن الجمهوري.
مدارس للصم تبث ترددات الإشارة من سد مأرب حتى قلعة القاهرة.
ما يقرب من 180 مشروعا مستداما، وكرامة محفوظة.
قبل أن يرتد طرف اعتذاري، يراودني عن نفسه الشكر لكل إنسان في فريق العمل، شكرا وحبا للدهشة الموثّقة في لغة الإشارة، شكرا وحبا لكل من نفرت دمعة إنسانه، شكرا وحبا مؤسسة "توكل كرمان".
(فائدة نحوية)
حيثُ: ظرف مكان مبنى على الضم في محل نصب
الإنسانْ: مبتدأ مرفوع وجوبا
والخبر هنا واضح وموجود، يا "بلقيس"