مقالات

عن فساد النخب الذي التهم اليمن في زمن الحرب

11/08/2025, 17:58:22
بقلم : فهمي محمد

في قلب المأساة الإنسانية التي مزقت اليمن منذ سنوات، حيث كان الموت جوعاً أو قصفاً هو قدر اليمنيين، تنشَّطت آلة أخرى لا تقل فتكاً، وهي تعمل في الظل والعلن: إنها آلة الفساد المنظم الذي مارسته النخب السياسية والعسكرية المتحكمة بمفاصل الصراع. لقد تحولت الحرب الأهلية المستعرة منذ عام 2014 إلى فُرصة ذهبية غير مسبوقة لنهب ثروات البلاد المتبقية، وتحويل معاناة الشعب إلى سلعة رابحة في أسواق الفساد والانتهازية. فسادٌ لم يعد مجرد اختلاسات صغيرة أو سوء إدارة، بل تحول إلى نظام حوكمة قائم بذاته، يغذي الصراع السياسي والحرب العسكرية على حد سواء ويطيل أمد الكارثة الإنسانية في اليمن.

على امتداد الجغرافيا اليمنية المشتتة بين سيطرة الحوثيين في الشمال، والحكومة المعترف بها دولياً في الجنوب (المتمركزة في عدن مجازا )، والمجلس الانتقالي الجنوبي، وقوى أخرى محلية كانت ومازالت تتأسس تباعاً، لكنها في كل الأحوال تكرر الصورة ذاتها: نخب سياسية وعسكرية تستغل غياب الرقابة، وتراخي العالم، وتناقض المصالح الإقليمية وضعف وانهيار مؤسسات السلطة (التي لم تتحول أصلاً إلى دولة) لتكريس هيمنتها الاقتصادية والمالية. لقد بات هذا الفساد هو المحرك غير المعلن لهذا الصراع الذي بات يوفر الماء والمرعى لأهل الكراسي والسلاح على حد سواء، فمن يستولي على الأرض أو الموانئ وحتى الموارد المائية، لا يكتفي بالسيطرة العسكرية أو السياسية، بل يتحول فوراً إلى "مافيا" اقتصادية تستنزف الموارد وتستغل الثروات للمصالح الشخصية.

في سنوات الحرب الماضية تعددت أوجه الفساد والنهب. حيث اتجهت الأنظار في بادئ الأمر نحو المساعدات الإنسانية الدولية، شريان الحياة الذي أبقى ملايين اليمنيين على قيد الحياة. تقارير الأمم المتحدة ومنظمات مراقبة مثل "هيومن رايتس ووتش" ظلت تتحدث باستمرار عن عوائق هائلة تواجهها، وعن تحويلات واختلاسات وتلاعب بالأسعار من قبل النافذين والقابضين على زناد السلاح والقرار في مناطق عبور وتوزيع هذه المساعدات.

الغذاء والدواء الذي يُفترض أن ينقذ أرواحاً في ظروف الحرب التي غابت فيها السلطة السياسية، تعرض للسرقة والابتزاز والبيع في الأسواق السوداء لتمويل أطراف الصراع وتعزيز نفوذ سياسيين وعسكريين لم يتحولوا إلى تجار حروب فقط، بل صَنعوا فساداً يتغذى على الجوع والعطش والمرض والفقر.

لم يقتصر الأمر على فساد المساعدات الإنسانية. فموارد اليمن المتبقية، خاصة عائدات النفط والغاز، تعرضت لنهب منهجي. في المناطق الخاضعة للحكومة المعترف بها دولياً في عدن، حيث تتهم تقارير صادرة عن هيئات رقابية يمنية ودولية شبكات متحالفة مع قيادات سياسية وعسكرية بارزة بالاستيلاء على عائدات الموانئ النفطية، والتلاعب بالتصاريح، وتهريب الوقود عبر طرق غير مشروعة. وعلى الضفة الأخرى تتكرر الصورة في مناطق سيطرة الحركة الحوثية الانقلابية، حيث تشير تقارير إلى قيام الجماعة بتحويل عائدات الموانئ والنفط والضرائب والجمارك إلى خزائنها الخاصة، لتمويل جهازها الحربي والأمني وتعزيز سيطرتها السياسية والعسكرية والأيديولوجية على رقاب اليمنيين، بعيداً عن أي رقابة أو محاسبة، الأمر الذي يعني أن اليمن تحولت إلى "إقطاعية اقتصادية" وغنيمة حرب لا وطنية تُدار لمصلحة قادة سياسيين وعسكريين وحلفائهم.

لم يكن احتكار السلع الأساسية والتحكم بأسعارها أحد أوجه هذا الفساد. فقد أنشأت شبكات فساد مرتبطة بالنخب السياسية الحاكمة ليس بهدف تحقيق أرباح خيالية فقط، بل استُخدمت كأداة للضغط السياسي والاجتماعي، ووسيلة لتمويل الأنشطة العسكرية وتعزيز الولاءات السياسية. والنتيجة هي تضخم مُفْرط يطحن المواطن العادي، الذي يجد نفسه عاجزاً عن تأمين أبسط ضروريات الحياة في ظل أسعار لا تمت للواقع بصلة حتى مع انخفاض قيمة العملة الصعبة مقابل الريال اليمني، بينما ظلت الثروات تتراكم في أيدي قلة قليلة استفادت من الانقلاب والحرب ومازالت تستفيد من وضع لا سلم ولا حرب في اليمن.

بلا شك، إذا كنا نستطيع القول بخصوص الحاضر إنه لا يمكن فصل الفساد الاقتصادي الضخم عن الفساد السياسي، فإننا في نفس الوقت نستطيع القول أن هذا الفساد لم يأتِ عفوياً بل هو امتداد لفساد تحول إلى ثقافة ونظام معرفي منذ عقود مع أن الفارق فقط يتمثل بوجود سلطة سياسية كانت تنظم الفساد وتقننه في عهد النظام السابق، أما اليوم فغياب السلطة الفاعلة والموحدة على المستوى الوطني، وإضعاف القضاء، وتفكك مؤسسات الرقابة، وغياب دور الأحزاب السياسية، كلها عوامل خلقت بيئة مثالية لممارسة فساد بلا حدود ولا قيود.

لم يكن وحده التمويل الخارجي، المتمثل بالدعم المالي للحكومة المعترف بها دولياً أو حتى تلك الإيرادات التي تجنيها جماعة الحوثي من مصادر مختلفة، التي ظلت خلال السنوات الماضية تمر عبر قنوات غامضة تمتص المليارات. بل إن تقارير دولية، بما في ذلك تقارير خبراء الأمم المتحدة، تشير دائماً إلى سوء إدارة كبير واختلاس لأموال طائلة من هذا التمويل ذهب جزء كبير منها خلال السنوات الماضية إلى جيوب قيادات سياسية وعسكرية استثمرت الحرب وحولت سنواته التي كانت كارثية على الشعب اليمني إلى عصرٍ ذهبي لها.

في السنوات الماضية لم يخلُق فساد النخب السياسية والعسكرية في اليمن "اقتصاد حرب" قائماً على الدمار والنهب فقط. بل خلق نظاماً معقداً من المحسوبية السياسية والابتزاز والسرقة والاحتكار، والتلاعب بعملية الصرافة وقيمة العملة الوطنية، وحتى ثقافة الارتهان للخارج وبيع السيادة الوطنية، وحتى تأدلج الوعي المجتمعي بقيم ومبادئ غير وطنية، دون اعتبار للثمن الذي سيدفعه الشعب اليمني في الحاضر والأجيال القادمة في المستقبل.

عملية مكافحة هذا الفساد لم تعد عملية إصلاح تتعلق بالعملة وانخفاض الأسعار رغم أهمية ذلك، ولم تعد مجرد خطوات سياسية تالية بعد تحقيق السلام بين الحركة الحوثية والشرعية اليمنية؛ إنها شرط أساسي موضوعي ومدخلي لأي سلام يعمل على خلق شروط الدولة الوطنية الديمقراطية. فبدون كسر دوائر الفساد المغلقة منذ سنوات، وبدون محاسبة الفاسدين وكشفهم واستعادة الثروات المنهوبة، وبناء مؤسسات قوية قائمة على الشفافية والمساءلة، والانتقال إلى عدالة انتقالية متكاملة، بدون ذلك سيظل اليمن سجيناً لخراب من صنع نخبه، السياسية والعسكرية.

مقالات

وقتلوا آخر شهود الجريمة

الصحفيون في كل زمان ومكان هم شهود الحقيقة؛ فهم مَنْ يُتابع الأحداث ويدوّن الوقائع، ويتحرّى الوصول إلى المعلومات الصحيحة من مصادرها الأساس، ويدقق في المصادر ومعرفة الأهداف والغايات في حالات الصراع، ولا بُدَّ من الحياد والموضوعية.

مقالات

حضرموت .. أزمة واحدة وسرديتان

هذا نصٌّ تحذيريٌّ يحاول قراءة مسارٍ يتشكّل أمام أعيننا لا مجرّد سرد أخبارٍ متفرّقة. خلال الأيام الأخيرة تمدّد الغضب المعيشي في حضرموت من انقطاعات الكهرباء والوقود إلى ساحاتٍ أوسع، فيما تصاعد الجدل حول معنى “النظام والقانون” وحدود القوة. في الوادي، خصوصًا تريم وسيئون، بدأت الحكاية من مطالب خدميةٍ واضحة ثم انزلقت إلى احتكاكاتٍ وتفريقٍ بالقوة وتوقيفات. ظهرت تعبيراتٌ قبليةٌ رمزيةٌ تؤشّر إلى أن المجتمع يرفع سقف حمايته الذاتية حين يشعر بأن القنوات المؤسسية لا تُنصفه. هذا لا يحوّل الاحتجاج إلى فعلٍ قبليٍّ خالص، لكنه يذكّر بأن الفراغ السياسي يُملأ سريعًا بأطرٍ اجتماعيةٍ تقليدية عندما تغيب الاستجابة الجادّة.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.