مقالات
فبراير والفكرة الجمهورية
هناك فصيل من أنصار النظام السابق، ومن المناهضين للحوثي حاليا، يقولون إن الاحتفاء ب'فبراير' يشق الصف الجمهوري، ويضعف المعركة مع تيار الإمامة، لا أدري على أي أساس يستندون في خلاصتهم هذه، أظنّهم يقصدون أن الاحتفاء ب'فبراير' يربك ولاءهم للجمهورية حين يذكرهم بخيانة زعيمهم لها، وبدلًا من أن يقطعوا صلتهم به، ويؤسسون دفاعهم عن الجمهورية من منطلق إيمانهم بها كفكرة، إذا بهم يطالبون أنصار فبراير بالتخلّي عن حفاوتهم بالثورة، كما لو أن 'فبراير' هي من طعنت الجمهورية وليسوا هم.
بالأمس كانوا يقولون عن أنفسهم "جمهوريين"، وهم مع تأبيد الحاكم، وتوريث السلطة، والجمهورية في جوهرها ضد التأبيد والوراثة، واليوم يخرجون لإدانة ثورة 11 فبراير وشبابها وأنصارها، ويحملونها مسؤولية سقوط الجمهورية، مع أن فبراير وشبابها كانوا في قلب العمل الجمهوري منذ البداية، بل إن أكثر اليمنيين حماسة وثباتا في مناهضتهم للحوثي منذ انطلاق المعركة هم شباب الثورة، وهذا ما يؤكد أن مبادئ الجمهورية هي أحد المرتكزات القيمية لثورة فبراير، وهي الدافع الذي جعلهم يحسمون أمرهم في مواجهتها.
من الواضح أن 'فبراير' لا تخوض معركتها لاستعادة الجمهورية فحسب، بل تناضل أيضا للدفاع عن الحقيقة التي يريد أنصار النظام الساقط تشويشها، حقيقة الوضع الذي كانت عليه الجمهورية قبل سقوطها وأثناء حكم النظام السابق لها، تلك الصيغة المغشوشة من الجمهورية التي أفرغها النظام من أي معنى حقيقي.
قبل فبراير كانت الجمهورية كفكرة باتت بلا أي مضمون قيمي، صارت واجهة شكلية لنظام طفيلي يحتكر السلطة والثروة، ويقصي الجمهور العام من أي حضور حقيقي مشارك في صناعة مستقبله، هذه السياسة هي ما نقصد به: تفريغ الجمهورية من أي مضمون عملي.. فما الذي يتبقى للجمهور من فكرة الجمهورية حين تستأثر طبقة حاكمة وصغيرة بكل أدوات القوة والمال والنفوذ، تماما كما لا يتبقى من الجمهورية شيء حين تدّعي سلالة أحقيتها بالسلطة، وتفرض لنفسها امتيازات معيّنة في الثروة، الأمر سيان وكلا النهجين يفرغان الجمهورية من أي مضمون تحرري عادل.
إن الجمهورية في أبسط معانيها: هي امتلاك المجتمع السياسة والتغيير، حيازة الناس القدرة على صناعة شروط حياتهم وامتلاك أدوات السياسة والفعل، وهذا هو جوهر ما فعلته فبراير، لقد أعادت تمليك السياسة للمجتمع، وحررت الفضاء العام من سطوة النظام.
أي أن 'فبراير' نادت بالمساواة السيادية، حيث كل الناس أسياد على واقعهم، ومتحكمون بمصيرهم. وهذا هو مفهوم الجمهورية، كما يعرّفها المفكر السوري ياسين الحاج صالج.
من أي زواية تحاول قراءة 'فبراير'، ومضمونها القيمي، ستجدها عميقة الصلة بالدلالة الفكرية لمفهوم الجمهورية، فهي من الناحية السياسية أعادت للمجتمع فاعليته في صنع السياسة وتقرير مصيره العام، دفعت قطاعات هائلة من الشعب للمشاركة في الفعل السياسي، وهذه بالطبع فكرة في قلب مفهوم الجمهورية.
ومن زاوية العدالة الاجتماعية، فثورة فبراير كانت تعبيرا جليا عن رفض المجتمع لكافة أنواع الامتيازات الطبقية والسلالية، ونادت بالتوزيع العادل للثروة والسلطة، وإعادة صياغة تشريعات اقتصادية تعيد للمجتمع سيطرته على مجالات الإنتاج، وتنهي بذلك احتكار أي طبقة سياسية أو سلالية لأي امتياز.
وهذا أيضا مضمون يتسق تماما مع الدلالة العامة للفكرة الجمهورية، باعتبار الاقتصاد عاملا أساسيا من عوامل سيطرة المجتمع على مصيره، وتحكمه بشؤون حياته، وبشكل يتفق مع مفهوم الجمهورية، التي تمنح الناس هذا الحق، حيث الجمهور هم الملاك الشرعيون للسياسة والاقتصاد وأسياد في إدارة حياتهم، كما أسلفنا.
لقد كانت قيم فبراير، ولا تزال هي الحل لمعالجة كل الاختلالات الموروثة من النظام البائد، بما فيها تشوش فكرة الجمهورية وتفسخها، وفقدانها لأي بُعد فكري ينظّم معناها. ونعني بالاختلالات هنا، المشاريع المفارِقة لفكرة الدولة الوطنية ككل، وعلى رأسها الفكرة السلالية العنصرية، والنزعة العائلية، والمشروع المناطقي البغيض.
أخيرا: إن كان هناك من فكرتين عادلتين يُجمع عليهما أغلب قطاعات الشعب اليمني، فهما ثورة فبراير ومناهضة الإمامة الجديدة، والحديث عن الإجماع هنا ليس اعتباطا، بل بالنظر إلى المضامين القيمية التي تحملهما هاتان الفكرتان، وبعيدا عن محاولة تفسير فبراير من زاوية المناكفات السياسية والتشويش عليها، ففي نهاية الأمر تظل فبراير ومناهضة الإمامة فكرتين متصلتين بالجمهورية، ولا شيء من بين كل الأفكار السياسية الكبرى في البلد يحظى بقداسة وإجماع كما هو حال الفكرة الجمهورية، وما فبراير سوى محاولة تأريخية لتصحيح مسار الجمهورية، وإعادة الاعتبار لها، وتنشيط دلالتها وبث الحيوية في فكرة عظيمة، كان النظام قد أفسدها تماما، ثم جاء الحوثي واستكمل ما بقى منها، وفي الحالتين كانت فبراير وشبابها في قلب من تصدوا لهم ولا يزالون حتى اللحظة.