مقالات
قتل وإبادة الفلسطينيين حق لإسرائيل دفاعا عن النفس؟!
منذ السابع من أكتوبر من هذا العام، يشن قادة الاحتلال الاستيطاني الصهيوني حرب إبادة تتجاوز جرائم الحرب وضد الإنسانية. أٌشعلت الحرب المسعرة، منذ عامي 1947- 1948، وقبل ذلك بأعوام، تحت دعاوى حق الدفاع عن النفس.
تلقف الرئيس الأمريكي والبريطاني والفرنسي، والسوشيال ميديا مقولة: "حق الدفاع عن النفس"؛ ليبرروا بها حرب إبادة الفلسطينيين، وإفناء الحياة، وتدمير البيئة، وتحويل غزة والضفة الغربية إلى بيئة غير صالحة للحياة.
التاريخ الإنساني كله، منذ البداية، والاجتماع البشري، والحياة المدنية، والوجود الحضاري؛ قامت كلها على حق الدفاع عن النفس، وهو ما تقرره الشرائع الدينية، والوضعية، وتجسده القيم والأعراف والتقاليد، وأكد عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والميثاق الدولي الإنساني، وكل العهود والصكوك الدولية.
الاجتماع البشري قائم على حماية الكليات الخمس: حماية العرض، والأرض، والنفس، والمال، والدين؛ فالدفاع عنها مشروع، بل واجب.
الاستعمار، منذ بداية القرن الخامس عشر، وقد تورط به جل البلدان الأوروبية، ومثل البرتغال والأسبان وهولندا البداية، وتسيّدت بريطانيا وفرنسا، منذ القرن السابع عشر. لقد قام الاستعمار على "حق القوة" بدلاً من "قوة الحق". ألغى الاستعمار -كل الاستعمار- حق الأمم والشعوب المستعمرة في الحرية والعدالة، وقام بسلب السيادة، ونهب الثروة، وإهانة الكرامة الوطنية، وتعومل مع شعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية كحيوانات وعبيد، وقامت أمريكا وأستراليا بإبادة الهنود الحمر.
ورثت الصهيونية العالمية- حليفة أمريكا ومنتجها إسرائيل- هذا التراث الوبيل؛ فإسرائيل الدولة المحتلة لفلسطين تُمنح حق الدفاع عن النفس؛ أي كامل الحق في احتلال شعب فلسطين، وتقتيل أهله وتشريدهم.
خلال ثلاثة أسابيع، تقتل إسرائيل ما يقرب من عشرة آلاف فلسطيني، غالبيتهم من الأطفال والنساء. أكثر من ثلاثة آلاف وتسعمئة طفل قتلوا في هذه الحرب المتوحشة، وتُقذف غزة المحاصرة، والممنوع عنها دخول الماء والغذاء والدواء والوقود، بخمسة وعشرين ألف طن من المواد المتفجرة؛ ضعف القنبلة المُلقاة على هيروشيما.
تدمّر المستشفيات والمدارس والأحياء السكنية، وأماكن اللجوء، ومراكز المنظمات الأممية، وتقصف سيارات الإسعاف، ويُقتل المرضى والصحفيون والمسعفون، وتدمّر المساجد والكنائس، وكله تحت دعاوى "الدفاع عن النفس"، إزاء شعب تُحتل أرضه على مدى خمسة وسبعين عاما، ويحاصر أبناؤه في غزة والضفة الغربية؛ وهم المشردون من منازلهم ومدنهم وقراهم في حربي 1948، و1967، والهدف تشريدهم للمرة الثالثة، ولكن هذه المرة كلهم خارج وطنهم.
الحرب لا تدور في غزة وحدها، فهي دائرة، منذ مطلع هذا العام، في الضفة الغربية منذ تشكيل وزارة "نتن ياهو" من المتطرفين التوراتيين، والصهاينة.
لقد شنت الحرب على الضفة الغربية، ودُفِع المستوطنون إلى توسيع المستوطنات، وتدمير القرى ومحاصرتها، وقلع أشجار الزيتون، وإهانة المقدسات المسيحية والإسلامية، واستباحة المسجد الأقصى، وقتل المدنيين، وطرد سكان القدس من مساكنهم؛ فهل هذا دفاع عن النفس؟!
إن هؤلاء المستعمرين يعتقدون أن الاحتلال الاستيطاني، وقتل المواطنين، وطردهم من بيوتهم، وإهانة تاريخهم، وثقافتهم القومية، ومعتقداتهم، وإقامة نظام فصل عنصري دفاع عن النفس؟
تدرك مصر أن دفع أكثر من مليون فلسطيني إلى حدودها مع غزة تمهيد لإجبارهم على التوجه إلى سيناء، ويدرك الأردنيون أن الأردن هي الوطن البديل، وأن ما يجري في الضفة الغربية من قتلى تجاوزوا الألف قتيل، منذ مطلع العام؛ لإجبار سكان الضفة المشردين في حرب 1948 و1967 على الالتجاء إلى الاردن.
أليس مخجلاً أن تقطع بوليفيا علاقاتها مع إسرائيل، وتسحب التشيلي وكولمبيا وتركيا سفراءهم من إسرائيل، بينما تبقي بعض الدول العربية المطبعة علاقاتها مع إسرائيل؟!
التجبر الأمريكي في التشارك مع شرطي المنطقة تجاوز الحدود، وموقف الدول العربية الست في مواجهة وزير الخارجية الأمريكي المتباهي بيهوديته، وطرح قضية الوقف الفوري لإطلاق النار كقضية أولى- موقف مهم، ويؤسس لموقف القمة العربية القادم المزمع انعقاده في الرياض في 11/ 11/ 2023.
لا ينبغي بحث قضايا الحل السياسي قبل وقف الحرب، وتبادل الأسرى. أمريكا شريك في الحرب، وبدلاً من استمرار استجداء الطلب منها بالضغط على إسرائيل، فهل يمكن البحث عن سبيل آخر: قطع العلاقات مع إسرائيل، وقف التطبيع، والاتجاه إلى القوة الدولية الأخرى للضغط على أمريكا، وأخيرًا التلويح بما أقدم عليه جلالة الملك فيصل عام 1973 من وقف ضخ البترول، والأهم مسّ المصالح الأمريكية والأوروبية.
إيقاف الحرب، والسماح بدخول المواد الغذائية والماء والدواء قضايا أساسية أمام القمة، كما أن دعم مطلب حماس بتبادل الأسرى، وهم ألفان مضى على اعتقال بعضهم أكثر من عقدين كمروان البرغوثي - الزعيم الفتحاوي - أمر أساس ومشروع.
حشد الأمريكان وبعض الأوربيين للأساطيل والبوارج، ومشاركة الإدارة الأمريكية في إدارة الحرب، والطلعات الجوية والاستخبارات يدلل أن الحرب ليست فقط لحماية إسرائيل، وإنما أيضًا للسيطرة على المنطقة، وقطع الطريق على التشكيل الدولي القادم، وربما تعويضًا عن خسارة الحرب في أوكرانيا.
إن عدم تحقيق الانتصار في أوكرانيا يعني الهزيمة، أما فشل إسرائيل، فدلالاته ومخاطره أكبر من مجرد الهزيمة؛ إذ معناه سقوط آخر دولة احتلال استيطاني في العالم، ومعناه أيضًا أفول نجم القطب الأوحد (أمريكا)، وتراجع دور الاستعمار القديم والجديد.
هي إذن معركة تحول ذات بُعد دولي. الهمجية والتوحش والإفراط في القتل والتدمير، والاستهانة المطلقة بالقوانين الدولية، وتقاليد الحروب، والسقوط الأخلاقي عالميًا يدلل على فشل الحرب مهما تعاظم جبروت القوة، وتزايدت جرائمها. حروب إسرائيل ضدًا على الشعب الفلسطيني، وجوارها العربي، كانت تقوم على تكتيك الحروب السريعة.
فحرب 1948 لم تستغرق أكثر من سبعة أشهر ضد سبع دول عربية حينها، أما حرب 1967 -حرب الأيام الستة- وتسمى "حرب الساعات الست"، كانت الضربة الخاطفة فيها بتدمير القوة الجوية المصرية. حروب إسرائيل المتكررة ضد الانتفاضة الأولى والثانية، وضد حماس قصيرة، وتشنها ضد شعب أعزل، أما حرب غزة، فمختلفة تمامًا.
إنها حرب ضد قوة خفية (جن)، وهي حرب ضد المدنيين بامتياز. الاحتجاجات الدولية، والتظاهرات في بلدان العديد من دول العالم بما فيها بلدان أوروبا وأمريكا الداعمة والمشاركة في الحرب، رغم القيود، والإجراءات التعسفية والمقيدة والموصوفة بالكبيرة والغاضبة ضد الحرب لها أثر. الترابط عميق بين إسرائيل وأمريكا وأوروبا الاستعمارية، وفشل إسرائيل مؤشر مهم لأفول نجم الهيمنة الأمريكية في المنطقة وحلفائها.