مقالات
قلبي على السودان
"قلبي على وطني" مأخوذ من قصيدة رثى بها الشاعر محمد الفيتوري عبد الخالق محجوب، والعلائق بين ما يجري في السودان واليمن قوية.
الحرب في السودان الشقيق فاجعة؛ لأنها تأخذ شكلاً مرعبا؛ فالقوى المتسيدة منذ النميري، والجبهة القومية الإسلامية، وقبلهما انقلاب عبود في 1958 - هم العسكر، وهم من يعلنون الحرب على شعبهم.
أدت الحرب في الماضي إلى انفصال الجنوب، وهي الآن تهدد الكيان السوداني كله. المتسيدون: الجيش، والدعم السريع هم من يفرض الحرب ضدا على الشعب السوداني كله، ويشتركون في ارتكاب كل جرائم الحرب مع سيدهما البشير، والجبهة القومية الإسلامية.
بعد الانقلاب على سيدهما يجدان نفسيهما في مواجهة بعضهما. لقد اعتقدا أن باستطاعتهما، وعبر المساومة مع نداء الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، أن يحكما بدلاً من البشير الذي اعتمد عليهما في قمع الانتفاضة.
راهنا على المساومة، والقمع معا، وخابت المساومة بعد الانقلاب على حكومة حمدوك، التي أرادوها لعبة بأيديهم، ثم أطاحوا بها بعد بضعة أشهر متهمينها بالفساد، والعجز عن قمع الاحتجاجات المستمرة، وأودعوا وزراءها السجن.
استمرار الانتفاضة وتصاعدها، خصوصا بعد تشكيل لجان المقاومة الشعبية التي امتدت إلى مختلف المدن، والأحياء الشعبية، والريف، وانضمام جماعة الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، ونزول وزرائهم إلى الميادين - سمة الثورة التي امتدت إلى مختلف المدن والأحياء.
شعر البرهان وحميدتي بخطورة الوضع، وتزايد الضغط الدولي، والوساطة الثلاثية: الأمم المتحدة، والإيجاد، والاتحاد الأفريقي - عليهما، وربما أيضا من أصدقائهما الأمريكان والبريطانيين، وبعض الحكام العرب، وإسرائيل؛ فأعادوا اللعبة - المساومة مع الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، ووصلوا إلى اتفاق مبادئ أسموها "الاتفاق الإطاري".
لم يؤد الإطاري إلى انشقاق المدنيين المنشقين أصلاً، وإنما أدى إلى شق قادة الجيش، وقادة الدعم السريع: البرهان، وحميدتي. والأخير آتٍ من "الجنجويد"؛ صاحب أكبر الجرائم في دارفور منذ العام 2003، والأول ملغوم بالفلول والكيزان - ضباط، وقادة، ومليشيات الجبهة القومية والإسلامية.
إن التصارع بين "الإخوة الأعداء" على السلطة والثروات الهائلة المنهوبة، وعلى تأجير القوة العسكرية، وعلى بيع الولاءات للقوى الدولية المتصارعة، والجوار، وإسرائيل، وبعض دول الخليج - سبب رئيس للحرب؛ فكل منهما يريد أن يكون الوكيل الأول والوحيد، وكان إغراء "الاتفاق الإطاري" أن كل واحد منهما يريد أن يحقق به الانتصار للتفرد، والخلاص من الآخر باجتذاب المدنيين؛ فقد أراد البرهان من قضية دمج التدخل السريع في الجيش خلال عامين الخلاص من محمد حمدان دقلو، وأراد دقلو مد عملية الدمج إلى عشرة أعوام، وربط القيادة العسكرية بالوزارة المدنية.
العنف المكرس ضد المدنيين منذ مجيء البشير عام 1989 تحول إلى حرب بين الجيش، والتدخل السريع. الحرب بين القوتين العسكريتين يمكن أن يحل بواسطة إضعاف أحدهما للآخر، والتغلب في مستوى معين، ويمكن للوسطاء - على كثرتهم- أن يوفقوا بين الطرفين، ولكن الصراع ضد الانتفاضة هو الذي لا يمكن أن يحل إلا بابتعاد العسكر: الجيش، والدعم السريع عن السلطة، وانتصار القوى المدنية ممثلة بالحرية والتغيير- الكتلة الديمقراطية، وجماعة المجلس المركزي؛ أطراف الاتفاق الإطاري.
لعب العسكر كثيرا بالخلافات بين القوى السياسية، ومعاناة الشعب من هذه الحرب الإجرامية كبيرة.
لا يهم العسكر أن يموت كل الشعب مع الإبقاء على مصالحهم، والاستمرار في طغيانهم، وما يجري في السودان يروع الضمير العالمي؛ فخلال بضعة أيام يزيد عدد القتلى على أربعمئة، ويُحاصر المدنيون الصائمون داخل منازلهم، والطلاب في مدارسهم، وتشن الغارات على المستشفيات، وتخرج غالبيتها عن الخدمة، وتذهب المناشدات أدراج الرياح.
فقدان الضمير، وعدم الشعور بالحد الأدنى من المسؤولية قاسم أعظم بين عسكر السودان، ومليشيات الحكم في صنعاء؛ حيث تجمع المئات في وسط العاصمة صنعاء في شهر رمضان للحصول على صدقات من تاجر، فتهب المليشيات للاستيلاء على مال الصدقة؛ بغية التفرد بالتوزيع، ويتسبب إطلاق النار العشوائي في قطع خطوط الكهرباء؛ ما أدى إلى قتل أكثر من 85 شهيدا، وجرح المئات نتيجة التدافع.
تدخل الحرب في اليمن عامها التاسع، والقتلى أكثر من نصف مليون، والمشردون أكثر من ثلاثة ملايين داخل وطنهم، والجرحى بالملايين، أما الجوعى، فغالبية الشعب، ولا يتحرك ضمير قادة المليشيات الحاكمة في اليمن وساستهم للجنوح للسلام.
في رسالة الدكتور عبد السلام نور الدين، وهو أكاديمي ومفكر سوداني وعربي، يرى فيها أن القتال الحالي في السودان يدور بين مليشيات الحركة الإسلامية: كتائب الظل، وقوات الدفاع الشعبي، والأمن الطلابي، وكتائب التائبين، وفصائل الجيش التابعة لعبد الفتاح البرهان من جهة، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان (حميدتي) من جهة أخرى.
لم يفاجئ القتال التناحري بين رأسي اللجنة الأمنية: عبد الفتاح، وحميدتي التي انقلبت في أبريل 2019 على عمر البشير؛ انقاذًا لدولته التي أطلق عليهما الإنقاذ (دولة الخيار الحضاري)-الثورة الشعبية العارمة في 18 ديسمبر 2018، كما لم يفاجئ القتال الضاري بأسلحة الميدان، والقصف الجوي في شوارع أحياء العاصمة المثلثة التي يقطنها ما يقرب من خمسة عشر مليون نسمة سوى سكانها الذين شاهدوا عام 1976 ما أطلق عليه وقتئذ الغزو الليبي، أو المرتزقة الذي نفذته الجبهة الوطنية التي شكلت من حزب الأمة، والوطني الاتحادي، والإخوان المسلمين مباشرة بعد انقلاب الناصريين، في 25 مايو 1969 بقيادة جعفر النميري.
لم تكابد أحياء العاصمة المثلثة في عام 1976 من شح المياه، وانقطاع الكهرباء، وإخلاء المراكز الصحية والمستشفيات من المرضى والأطباء؛ إذ توجه المحاربون القادمون من ليبيا إلى أهدافهم العسكرية المباشرة، بعيدًا عن المواطنين، أما حرب "المتواطنين" الأعداء، فيدور القتال بين ثلاثة أطراف: مليشيات الحركة الإسلامية، الجيش، وقوات الدعم السريع، إضافة إلى تدخل الطيران إلى جانب قوات البرهان.
إذا كان ثمة سمة مشتركة بين أطراف القتال، فهم يمثلون بفضاضة القوى المضادة للثورة، وستوجه بنادق المنتصر منهم لاستئصال قوى الثورة: الحرية، والسلام، والعدالة؛ لذلك لا يكترث أي طرف منهم في ثنايا حربهم هذه الباغية بالخراب، والدمار، والقصف العشوائي، والمجاعة، والظمأ الذي وقع ولحق بمواطني العاصمة، والأقاليم منذ اندلاع حربهم الشائنة، في صبيحة يوم السبت الخامس عشر من أبريل، وحتى هذه اللحظة.