مقالات
كلمة عن القيل سلطان العرادة
سبق لسلطان أن خطب كثيرًا، لكن خطابه الأخير بدأ كما لو أنه أول خطاب له، طوال سنوات الحرب ظل الرجل يراكم صورة البطل في أذهان الجميع، ويحظى بمهابة متصاعدة، إلا أن خطابه الأخير جاء في لحظة ومشاعر الناس تكاد تكون على حافة اليأس، جاء لينفخ فيهم إحساسًا متجددًا بالكبرياء ويقينًا بالنصر، استمعوا إليه وهتفوا بصوت واحد: هذا هو سلطاننا القادم.
يقال أن الحرب تخلق أبطالها، غير أن سلطان العرادة، ظهر بطلًا منذ البداية، وطوال سنوات الحرب، ظهر رجال كثر، ظهروا واختفوا، شعّوا وغربوا، انتصروا وانكسروا، واحتفظ سلطان العرادة، بتلك الهالة الجسورة، الصورة الثابتة اللغة الموحدة والنبرة الملئية بوعد الخلاص الأبدي.
بقدر ما أظهرت الحرب انكشافًا مريعًا في القيادة، بقدر ما شعر الناس بأنهم يتحركون عراة في بلاد بلا رأس كبير يستظلون خلفه، بقدر ما استشرى الاحباط في قلوبهم، بقدر كل هذا كانت بهجتهم بالظهور الأخير لسلطان العرادة، فها هو يستكمل جدارته بالقيادة، لقد تجلى كزعيم يتجاوز مأرب، كرجل يحمل مظلة الجمهورية ويبث الطمأنينة في قلوب البشر الخائفين من الغد.
لا يكون للأمل أهمية كبيرة في اللحظة التي يكون فيها الواقع مبشرًا به، بل العكس ما هو مطلوب، حيث يحتاج الناس أن يحتفظوا بأمل ما، في لحظات تبدو فيها كل الآفاق مسدودة، هنا يتجلى الأمل الجسور، بطولة القائد الحق، أمل ينتزعه من يقين الذات بحقها في البقاء، من الصراع المحتدم مع اليأس الحاد.
هنا يطرح المفكر السوري ياسين الحاج، سؤال مماثل بخصوص الأمل: هل يمكن الاحتفاظ بالأمل في شروط منتجة لليأس بوفرة، ولا تلوح منها مخارج في الأفق؟ هنا أيضاً يمكن القول إن الأمل لا يحتفظ بقيمته إلا في أوضاع مثل هذه. أما حين يكون الأفق مفتوحاً، حين تصير الحياة رخية، حين لا ينيخ اليأس بثقله على قلوبنا، لا يكون الأمل عزيزاً. نحتاج إلى الأمل بالضبط حين يكون اليأس قوياً جباراً..نحتاج للأمل الحي والنشط، تمامًا كما أوحى به محافظ مأرب في خطابه الأخير.
لكأن اليأس وقد بلغ ذروته، هو شرط لولادة أمل فعّال، لكأن الذات وقد بلغ إحساسها بالخطر منتهاه، تحتشد وتُنجب نفسها بجسارة أكبر، ضربة مقاتل عنيد أحيط بيأس كبير، لكنه وبدلًا من ارتخاءه أو انتظار مصيره، وقف وأجهز على خصمه، أعاد الأمل لشعبه وأمسك مصيره من الإفلات مجددا.
هذا هو ما يمثله محافظ مأرب في هذه اللحظة الفارقة، لا يمنح الناس تفاؤلًا ساذجًا، ولا يضللهم بوعود وهمية، بل يستنفر فيهم أقصى يقين داخلي بالنصر، في أشد لحظاتهم صراع مع اليأس، يخاطبهم كجندي من قلب الملحمة، يدرك الخطر، لكنه يرى الغد بوضوح لا يخالطه شك، ولو مع أخر طلقة في المعركة.
في الحروب وفي كل اللحظات المفصلية بتاريخ الشعوب، يكون لخطابات القادة، دورا محوريا في صناعة المصير، ولعل هذه من مفارقات التاريخ ومنطقه، كيف لخطاب قصير، أن يصنع تحولا في مسار الحياة الواقعي، إنه أمر لا يخضع للتفسير السببي المباشر، ليست مسألة رياضية، بل أمر يتعلق بميكانيزم البشر، بالحاجة النفسية العميقة لدى الجماهير، لشخص قوي يرهنون وجودهم له ويتحركون وفقا لما يبثه فيهم من قوة روحية لها دور في صناعة الفارق وسد كل الفجوات الحاصلة في مسار المعركة.
كان من المفترض أن يصدر هذا الخطاب من رئيس الجمهورية، أو لنقل بطريقة مقلوبة، لقد تلقى الناس خطاب سلطان العرادة، كما لو أنه رئيسهم المنتخب من قلب المعركة، رهانهم الأول والأخير، غاب هادي وترك فجوة خطيرة في الجدار المعنوي للأمة اليمنية وحضر سلطان العرادة، قيل يعرف قومه ويعرفونه جيدا.
أخيرًا: لقد تمكن الحوثي _كعادته دوما_من تضخيم انتصاراته الأخيرة في مأرب بشكل متجاوز لطبيعة المعارك التي جرت، فمنذ انهيار جبهة نهم وصولا للجوف، ثم معارك البيضاء والتفافه على العبدية، وبقدر ما هي تلك المناطق مهمة، والسيطرة عليها خسارة كبيرة، إلا أن ذلك لم يحدث نتاج معارك منظمة، ولا أعني هنا التهوين منها، لكن ما أود قوله هو أن نجاحه فيها، لا يمثل مؤشرا دقيقًا على إمكانية اسقاطه لمأرب، لكن الحوثي سوّق ذلك كعبقرية خاصة وبدأ أن مأرب آيلة للسقوط بيديه فعلا.
صحيح أن ما انتزعه الحوثي جعل مأرب محاطة بخطر أكبر، لكن الجبهات المركزية في مأرب ظلت محصنة.. (الكسارة، المشجح، هيلان.. وغيرها) إلا أنه ذهب يضخم من انجازه العسكري المحيط بها ويصور مأرب كأنها غدت في متناوله، وهذا ما جعل الناس يعيشون مشاعر انكسار واسعة وإحساس بمصير مجهول.
من هنا اكتسبت كلمة محافظ مأرب بخصوص وضع المعركة أهمية كبيرة، فقد جاءت لتجرد الحوثيين من نشوتهم المبالغ بها ، وتزيح ستار الوهم المتضخم الذي بثه الحوثي طوال الفترة الماضية، حول مصير مأرب، جاء العرادة ليعيد برسوخة ترتيب الصفوف وتعزيز معنويات الناس، بكلمة خاطفة، وعميقة الأثر، وهكذا بالطبع يصنع القادة على مدى تاريخ الشعوب والبلدان.