مقالات

كيف أثرت الحرب على الإبداع في اليمن؟

18/06/2022, 06:37:08

ما هو معروف، ما هو بديهي جدا وأساسي فيما يخص طبيعة الحياة الإبداعية، هو أن المبدع بحاجة إلى مساحة ذهنية فارغة وواقع مرتّب؛ كي يحقق ذاته.

 قد يبدع المرء انطلاقا من أي ظرف هو فيه، غير أن تلك الحالة الاستثنائية ليست دليلاً ينفي أثر الحرب في استنزاف الطاقة الإبداعية لدى الفئة المؤهّلة لهذا النوع من الاشتغال.

سبع سنوات جعلت عشرات ومئات الشباب داخل طاحونة الأحداث اليومية، قلقين يتناهشهم الشتات من كل مكان، محدِّقين نحو الخارج، ومنهوبين من ذواتهم العميقة. هذا التمزّق النفسي لا يمكنه أن يكون فضاءً مهيئاً للإنتاج الإبداعي.
ذلك أن الطاقات تتسرّب خارج المسار الخلاق، وتنصرف نحو تدبير الواقع المبعثر.


من الصعب في واقع كهذا استدعاء ذلك المعيار المثالي القائل بأن المبدع يمكنه أن يواصل انهماكه بعوالمه الإبداعية مهما كانت الظروف المحيطة به.
فالمبدع إنسان واقع تحت جواذب كثيرة، تمارس تأثيرها عليه وتشوشه، وتلك هي عملية النزيف التي نعنيها هنا.

في واقع ضاغط كحال الوضع في اليمن، حيث الحرب تلتهم كامل المساحة، يغدو المبدع بين خيارين: إما أن ينخرط في واقعه؛ كي يتدبّر حياته، أو ينسحب، وفي هذه الحالة ربما يجد نفسه محاصرا بهموم أخرى، وحياته تحيق به وتضغط عليه؛ كي يقيم أوده. خياران كلاهما عسيران، ولا مخرج منهما إلا بوقف الحرب، أو توفّر المبدع لسند يشدّه؛ لإنجاز مهمته، وقد تحرر من ضغط الحاجة.

الحروب ليست بذاتها مصهرة للإبداع، هي حدث إنساني قاسٍ ومؤلم، ويمكنها أن تكون مادة للاشتغال الإبداعي متى وُجد خيال قادر على احتوائها؛ لكنها تحتاج خيالا فعالا متهيئا لمادته.
أما خيال مزدحم بهموم أخرى ويفتقد للاستعداد النفسي فهو لن يكون بمقدوره أن يحتوي آثار الحرب، بل يصير أحد ضحاياه.


لعل مشكلة المبدع اليمني في سنوات الحرب هو اعتقاده بأن مهمته تتطلب استهلاك ذاته وسط طاحونة الأحداث اليومية، كل هذا الفيض المتلاحق من الأحداث لا يتضمّن أي قيمة حقيقية ومتابعة شؤونه بشكل يومي ودقيق ليس سوى إرهاق للذات فيما لا أثر له.


ما هو باعث للأسى هو أن حربنا في أغلب نتائجها ما تزال خارج الفعل الكتابي، هناك فائض أحداث، وقصص وقضايا وجروح وصدامات كثيرة، والجزء الأعظم منها لم يقترب منه أحد، بشكل يحوّله إلى مادة كتابية متجاوزة للزمن. فالمبدع منشغل بمتابعة القضايا من منظور يومي دون قدرة على تغليفها بالمعنى الخالد، وبهذا يتلاشى الفرق بين المبدع والصحفي ذي المهمّة اليومية.

ما تفعله الحروب هو أنها تسهم في إحداث هزّة نفسية تفقد المجموع العام قدرتهم على احتواء آثارها، غير أن المبدع يُفترض به أن يكون ذا استعداد نفسي أكثر قدرة على المجابهة، وأشد قدرة على استيعاب واقعه واتخاذ مسافة منه، ثم محاولة تجريب احتواءئه بواسطة الكلمة.

الخلاصة: فيما يخص الإبداع، ليست المشكلة في الحرب، بل هي مشكلة مزدوجة، لدينا واقع مهشم، ولدينا مبدع ذو قدرات استعدادية غير جاهزة، وهو ما يجعل ظرف الحرب تسهم في مزيد من الشتات. هذا الوضع ليس حتمية، بل هو نتاج عشوائية وتراكمات كثيرة. منها ضعف التدابير الذاتية للمثقف، وكيفية إدارة واقعه بشكل يجعله دائم التهيؤ لمدافعة الواقع.

لقد ترك المثقف والمبدع نفسه نهبا للواقع المتشظّي، وصار هو نفسه متشظيا، وفي حالة كهذه، بدلا من أن يكون المثقف حالة صلبة قادرة على بناء أسوار عالية تحمي المجتمع من الانهيار، صار واحدا من المجموع المنهار نفسه.
 لقد صار ضحية، وكيف يمكن لضحية أن ينجو بنفسه؛ فضلا عن غيره.

وتلك هي رذيلة الحرب، جنايتها الأساسية على الإبداع والمبدعين.

خاص
مقالات

الإمامة هي المشكلة والجمهورية هي الحل

قديماً، في زمن كل الحروب: حروب العرب والإسلام والصليبيين والمغول والتتار وغيرهم، كان المنتصر فيها هو من يكتب التاريخ، وتصبح جرائمه وانتهاكاته وحتى مذابحه ملاحم وبطولات وأمجاداً يورِّثها لمن بعده ومن يليه ولأحفاده بعده، ولم تكن هناك رواياتٌ مغايرة لما جرى إلاَّ لماماً ونادراً، طالما تعرَّض أصحابها لضرب الأعناق وجزِّ الرؤوس وهدم البيوت وحرق الكُتب ومحو كل أثرٍ لأصحابها، ولا داعيَ لذكر المزيد.

مقالات

الحقيقة العارية: اليمن بين إدارة الفوضى وتجارة النفوذ

من يتأمل المشهد اليمني اليوم يدرك أنه لم يعد مجرد صراع داخلي بين قوى متناحرة على السلطة، بل تحول إلى عقدة جيوسياسية مفتوحة على احتمالات أبعد من جغرافيا اليمن وحدوده. فما يحدث ليس وليد لحظة عابرة، بل حصيلة تراكم طويل من التداخلات بين المحلي والإقليمي والدولي، حيث صار اليمن ساحة صراع تتقاطع فيها مشاريع الغير أكثر مما تتبلور فيها خيارات الداخل.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.