مقالات
لبنان فلسطين ثانية وغزة جديدة!
عندما شن نتنياهو الحرب على غزة كان الهدف الأساس المعلن هو إعادة المختطفين.
الحرب المتواصلة على مدى عام أدت إلى تدمير غزة بشكل كلي، وإعدام كل معالم الحياة ومظاهر الوجود فيها، وتشريد سكان المدن والقرى؛ فهناك أكثر من أربعين ألف قتيل، والإصابات تتجاوز المئة ألف؛ هذا غير المدفونين تحت الأنقاض.
كان الهدف الأول المعلن هو عودة الأسرى، أما الثاني فكان القضاء على حماس، وتدمير قوتها. لم يعد من الأسرى إلا أقل من القليل، وحماس وغزة -رغم كل ما لحق بها- ما تزال تقاوم؛ ما يعني أن الأهداف غير المعلنة كانت الأهم، وهي: تدمير غزة بحرب إبادة، وإجبار أهلها على النزوح طلبًا للنجاة.
تحقق تدمير غزة بشكل شامل وكلي، ولكن أهلها يرفضون التهجير، والمقاومة مع ذلك مستمرة، ولم تبرح مكانها. فحرب الإبادة لا هدف لها إلا التهجير، وهو ما لم يتحقق. إسرائيل تواصل التدمير والتقتيل وتشريد سكان غزة إلى شواطئ المواصي في العراء في انتظار الضغط الأمريكي والأوروبي على مصر، والتمويل العربي.
وإذا ما عجز بايدن؛ فإن ترامب القادم كفيل بتحقيق ذلك، وما هو أهم من ذلك -حسب تقدير النتنياهو- وإدارة حربه. في الـ19 من سبتمبر قامت إسرائيل بتفجير البيجرات التابعة لحزب الله، وأثناء ذلك وقبله وبعده قامت بقتل واغتيال قيادات مهمة في حزب الله. كانت ضربة قاسية أعقبها شن غارات مكثفة على كل مناطق الجنوب والبقاع والنبطية وصُور وحتى بيروت.
كان رد حزب الله بطيئًا وضعيفًا، ويقينًا، فإن الإدارة الأمريكية التي أعطت الضوء الأخضر -حسب نتنياهو- حاضرة في الحرب بقوة بالسلاح والمال والاستخبارات، وشنتْ إسرائيل الحرب على لبنان تحت عنوان «عودة مهجري الشمال».
الحرب على لبنان قد تكون أقسى وأشد وطأة من حرب الإبادة في غزة؛ فهي تُشنُّ على بلد مدمر أصلاً؛ دمرته الحروب الإسرائيلية المتكررة في: 1978، و1982، و2006، كما أن الحروب الأهلية والصراعات الطائفية منذ خمسينات وسبعينات القرن الماضي مسؤولة أيضًا عما يعيشه لبنان، ولكن -وبالقدر نفسه- لا ينبغي الاستهانة بصبر وصمود الشعب اللبناني؛ فقد هزم الاجتياح الإسرائيلي أكثر من مرَّة.
إطالة أمد الحرب خطرها على إسرائيل حاضر أيضًا. فهناك أبعاد كثيرة لهذه الحرب بعضها خرافي ويبدو مستحيلاً. فاليمين الديني والقومي الصهيوني مُصرٌّ على تحقيق «الوعد الإلهي» من النيل إلى الفرات، وتوظف هذه الخرافة لصالح الإمبريالية الأمريكية وحلفائها في منع وإعاقة التشكل الجديد لعالم ما بعد القطب الواحد، والهدف من تدمير العراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان هو التمهيد لهذا المخطط، كما أن الحرب على فلسطين ولبنان وما هو أبعد من ذلك؛ لإعادة تشكيل المنطقة.
لم تكن استعادة الأسرى في الحرب على غزة إلا ذريعةً للتدمير والإبادة وتحويل القطاع إلى أرض غير صالحة للسكنى، وإجبار الغزيين على هجر وطنهم، كما أنَّ دعوى عودة المهجرين من شمال إسرائيل ليست الأساس؛ فالغرض منها تدمير لبنان، ووضعه تحت الهيمنة الإسرائيلية، وإرغام الأردن على قبول أهالي الضفة الغربية؛ لإقامة الدولة اليهودية من البحر إلى النهر حسب الوعد الإلهي المزعوم؛ وهذا هو الهدف الرئيس للحرب.
وكما صعّب استعادة الأسرى بالحرب على غزة، كما زعم نتننياهو وقادة حربه؛ فلن تتمكن حرب الإبادة من القضاء المطلق على حماس، أو تأمين حدود إسرائيل؛ فإن استعادة المهجّرين في الشمال الإسرائيلي إلى منازلهم بالحرب على حزب الله ربما تكون ألأكثر صعوبة وخطورة؛ فالحرب بمقدورها تدمير جنوب لبنان وربما مناطق أبعد، وتستطيع قتل المئات والآلاف وتشريدهم، ولكنها لا تستطيع القضاء الكلي على حزب الله القوة المزروعة في تربة لبنان، ثم إنَّ تجارب إسرائيل المتكررة في اجتياح جنوب لبنان مشهودة، وقد وصلت إلى بيروت وباءت بالفشل.
كتاب بيريز «الشرق الأوسط الجديد»، وكتاب نتنياهو «مكان تحت الشمس» يكشفان التوجّهات الصهيونية للهيمنة المطلقة على المنطقة وفرض الزعامة والسيطرة.
كما أن محاولة تهجير الفلسطينيين الذي تكرر أكثر من مرة خارج وداخل وطنهم أصبح أكثر صعوبة بفضل بسالة وصمود الفلسطيني وثباته في أرضه.
يقينَا، فإن الهدف الرئيس للحرب هو التهجير، ولكن إصرار الفلسطينيين على الثبات في تربتهم يفشل هدف إسرائيل المزعوم من البحر إلى النهر.
عدم القدرة على تهجير الفلسطينيين، والفشل في تركيع لبنان، وفرض السيادة المطلقة على الأمة كلها- يعني هزيمة إسرائيل، وتظل الاحتمالات الأشد خطورة قائمة. اغتيال الزعيم الفلسطيني هنية في إيران، وما أعقبه من اغتيال فؤاد شكر- الرجل الثاني في الحزب، وتفجير البيجرات واللاسلكي في بيروت، ووصول الاغتيالات إلى الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله وعشرين من أهم قياداته- يدلل على خطورة الاختراق.
الوضع جد خطير، ويهدد مستقبل الأمة كلها. فلم يعد حزب الله كما كان عليه الحال في ثمانينات القرن الماضي ومطلع القرن.
صحيح أن الحزب توسع وامتلك قوة عسكرية وعتادًا حربيًّا فائق القدرة وخبرة قتالية، ولكن الاشتباك مع الداخل اللبناني، والاتهام بقتل الحريري، والأخطر الموقف من تفجير مرافئ بيروت، وحماية المتهمين، والاشتراك في قمع الربيع العربي في سوريا، والتماهي مع إيران، والمشاركة في سلطة أقل ما يقال عنها إنها ضعيفة- أضعف موقفه.
يردد نتنياهو لازمة «تغيير خارطة الشرق الأوسط»، ولديه ما يشبه التفويض من أمريكا بذلك، وسَتُرغم الدول النفطية ليس على دفع «الخُوَّة» فحسب، وإنما على دفع كلفة الحرب باعتبارها حرب حمايتها من العدو الإيراني وأذرعه في المنطقة، كما حصل معها في حرب الخليج الثانية.
تواصل الحرب وامتدادها لتصل إلى إيران ليس بعيدًا، وقد ترغم العربية السعودية على الانخراط في الحرب على إيران وأذرعها، وستتحمل الدول الخليجية تمويل الحرب.
قتل المئات بتفجير البيجرات واللاسلكي في لبنان، وقتل المئات والآلاف من المدنيين والأطفال والنساء، وتشريد ملايين السكان، وتدمير كل مظاهر الوجود ومعالم الحياة، ومنع وصول الماء والغذاء والدواء إلى غزة- ألا يُعدُّ كل هذا عملاً إرهابيًّا؟! أمريكا وأوروبا الاستعمارية شركاء في حرب الإبادة الإسرائيلية، ودعاوى تحضر وديمقراطية إسرائيل أكذوبة ككذب دعاوى الأمريكان والأوروبيين عن العدل واحترام حقوق الإنسان؛ فالمعايير المزدوجة هي الأساس في سياساتهم.
والسؤال هنا: بماذا تختلف جرائم حرب نتنياهو في غزة والضفة الغربية ولبنان والهولوكوستات اليومية المتواصلة فيها- عن جرائم ومذابح موسليني وهتلر؟! الوضع العام مهيأ لاستمرار الحرب وتصاعدها؛ فالتنافس الانتخابي بين الديمقراطي والجمهوري يدفع إلى التباري في المزيد من دعم إسرائيل؛ وللأمر علاقة بإعاقة التشكل الدولي الجديد؛ وهو هدف أمريكي وأوروبي مشترك. الحكم العربي مفكك ومتحارب وخاضع للإرادة الأمريكية، كما أن المجتمع الدولي فاقد للتأثير.
الداخل الإسرائيلي -وإنْ بدا منقسمًا- بين رافض للحرب ومؤيد، إلا أنه مائل للحرب، ويزداد حماسه لها بشكل كبير كلما برزت قوة إسرائيل أكثر. خطاب نتنياهو في الأمم المتحدة يبرز قدرًا من الغطرسة والتعالي كمعبر عن الإرادة الأمريكية والأوروبية؛ وهو يؤكد الإصرار على تصعيد الحرب، وعلى الوعد الإلهي؛ مقسمًا العالم إلى ثنائية النعمة، والنقمة.
فهو وشركاؤه في الخارطة التي رسمها: النعمة، والآخرون هم النقمة، وهو يصور نفسه ودولته -مع حلفائه الأمريكان والأوروبيين والأصدقاء العرب- كحامي حمى الحضارة والخير. دللت حرب الإبادة ضد حماس على مدى عام أن سر الصمود هو الاعتماد على النفس، وتحصين الداخل من الاختراق؛ وهو درس بليغ للجميع؛ وحزب الله هو الأقدر على التعافي والصمود.
انتصرت إسرائيل في 1948، وشردت أكثر من ثلثي شعب فلسطين، وانتصرت في 1967، وهزمت جيوش ثلاث دول عربية، ومع ذلك بقيت الأمة والشعب الفلسطيني يقاومون، وتعجز إسرائيل اليوم كأعتى قوة في العصر أن تستأصل الشعب الفلسطيني، وتجتثه من أرضه.
احتلت إسرائيل جنوب لبنان، ووصلت إلى بيروت عام 1982، واندحرت ومات مناحيم بيجن مكتئبًا. حرب إسرائيل الأخيرة على فلسطين ولبنان غير مسبوقة؛ فهي تستهدف إبادة الشعب الفلسطيني وتشريده، وتحويل لبنان إلى فلسطين ثانية وغزة جديدة.