مقالات

ماذا بعد مؤتمر الباحثين والخبراء (1)

21/10/2025, 15:25:09

- حول ماهية المؤتمرات العلمية وبعض تفاصيلها:

1- كثير من الكتابات والتعليقات على مؤتمر إسطنبول، بنوعيها المؤيد والمعارض، أتت إما عن غير معرفة بماهية المؤتمرات العلمية وأعمالها وتنظيمها، أو عن معرفة محدودة، ولأن الفضاء الأزرق وبقية الوسائط مفتوحة، فلا استغراب أن تكون الكتابات متناقضة إلى هذا الحد! والطريف في الأمر أساساً هو أن هذا النوع من المؤتمرات ليس محل أو ليس موضوع تأييد أو معارضة، فلا علاقة له بالسياسة، لأن العلم والمعرفة بطبيعة الحال خارج السياسة وخارج الأيديولوجيا معاً، وبالتالي خارج أي اختلاف، أو كما قلت يوماً ما (بحضور زملاء) للرئيس الراحل صالح رحمه الله: "إن العلم ملك لكل الأحزاب!" عندما طُلب مني الانضمام للمؤتمر الشعبي العام، وحتى يستقيم الفهم عند الذين قفزوا يذمون أو يهللون للمؤتمر، ولتوضيح دور أو فعل المؤتمرات العلمية، أكتب مبسطاً وملخصاً ما يلي:

(1) تبادل المعرفة: المؤتمرات العلمية تتيح للباحثين مشاركة نتائج أبحاثهم وتبادل الأفكار فيما بينهم، سواء الذين حضروا أو أقرانهم الذين لم يشاركوا، من خلال نشر المؤتمر لهذه الأعمال في موقعه وفي كتاب وقائعه.

(2) التواصل العلمي والتطوير البحثي: تساهم المؤتمرات العلمية في التواصل بين الباحثين والمتخصصين، وتعزز التعاون بينهم، وتفتح آفاقاً جديدة للبحث والتعاون البحثي.

(3) النشر العلمي: توفر المؤتمرات العلمية منصة للباحثين لنشر أبحاثهم في موقع المؤتمر وفي كتاب وقائع المؤتمر (conference proceedings).

(4) التأثير المجتمعي أو العام: تسلط بعض (وأشدد هنا على كلمة بعض) المؤتمرات العلمية الضوء على قضايا عامة أو مواضيع ذات ارتباط مجتمعي مباشر وملح (مثال أن يكون المؤتمر في علوم الدماغ - مرض الزهايمر مثلاً، ومثال آخر أن يكون المؤتمر مرتبطاً بالطاقة الشمسية - الكفاءة الميكانيكية الكمية للخلايا الشمسية، وهكذا)، وبالتالي يمكن أن يساهم هذا النوع من المؤتمرات في تطوير السياسات والممارسات من قبل الجهات المجتمعية والحكومية ذات الاختصاص، وعادة ما يكون ذلك عبر توصيات يقدمها الباحثون، ولكن المؤتمرات العلمية لا تتحمل مسؤوليات ولا تبعات من النوع الذي تتحمله الفعاليات السياسية أو الاجتماعية أو الفكرية أو الأدبية أو الفنية، أي لا يتناسب معها ولا يعنيها ولا تحتمل الفرقعات الإعلامية و"الكلام الكبير" المؤيد أو المعارض، من النوع الذي صدحت به صفحات الإنترنت عن مؤتمر إسطنبول، مثل أن المؤتمر استُخدم لأهداف سياسية أو تآمرية أو تلميعية وغيرها من الفرقعات المعارضة، أو أن المؤتمر كان أعظم حدث في التاريخ، أو أن نتائج المؤتمر ستغير اليمن، وما بعد المؤتمر ليس كما قبله من الفرقعات المؤيدة!
فلم يكن مؤتمر إسطنبول لا هذا ولا ذاك، بل كان مؤتمراً طيباً عادياً ناجحاً، مثله مثل كل المؤتمرات المشابهة الناجحة والطيبة السابقة واللاحقة، ولكل مؤتمر مميزاته النسبية، ولكل مؤتمر عيوبه النسبية أيضاً، سواء في التنظيم أو المحتوى، وهذا ما سوف أتحدث عنه في الحلقة القادمة من هذه الكتابة!

2- لأن المشاركة في مؤتمر إسطنبول لم تكن مفتوحة كعادة المؤتمرات العلمية، وقامت على الدعوة المباشرة (وهذه النقطة ليست عيباً ولا تنقص من نجاحه، بل هي صفته في ذاتها وفي ذاته كما اختارها المنظمون، وسنأتي إلى هذا تفصيلاً في الجزء الثاني من هذه الكتابة)، لأنها كانت كذلك، لا بد أن أوضح هنا ملخص الخطوات الرئيسة التي تتم بها الدعوة للمشاركة في أي مؤتمر علمي، كما يلي:


(1) الإعلان في وقت مبكر (على الأقل قبل 6 أشهر) عن المؤتمر في الموقع الإلكتروني الخاص بالمؤتمر الذي يحتوي على جميع المعلومات الضرورية.

(2) نشر الإعلان عن المؤتمر على وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية ذات الصلة.

(3) إرسال رسائل البريد الإلكتروني إلى المهتمين والمختصين في المجال، من خلال قوائم البريد الخاصة بالمؤسسات ذات العلاقة إن وجدت.

(4) الدعوة المفتوحة (call for papers): دعوة جميع المهتمين من ذوي الاختصاص للمشاركة في المؤتمر عبر تقديم أوراق.

(5) الدعوة الموجهة: دعوة علماء بذاتهم من ذوي الباع الطويل في المجال للمشاركة (عدد صغير بالمقارنة مع من سيشارك من خلال الدعوة المفتوحة).

(6) تقديم الأوراق أو ملخصاتها: دعوة المشاركين لتقديم أوراقهم البحثية أو ملخصاتها حتى تخضع لعملية تحكيم علمي من قبل لجنة علمية تتكون من مرجعيات علمية عالية التخصص، وفرز علمي بحسب المحتوى، فلا يطغى منحى تخصصي في المؤتمر على غيره، وبما يضمن تحقيق أهداف المؤتمر.

أكتب هذا حتى يؤخذ في الاعتبار من قبل الجهات التي تنوي تنظيم مؤتمرات قادمة، ونشجعها على ذلك بغض النظر عمّن هي هذه الجهات، ولذلك لم يكن مؤتمر إسطنبول مؤتمراً علمياً بالمعنى الاحترافي، ولكنه كان مؤتمراً تضمن قدراً كافياً من العلم والمعرفة، وبالتالي يمكن وصفه بأنه مؤتمر علمي قام على الدعوة الموجهة، وليس الدعوة المفتوحة!

3- المؤتمرات العلمية ليست معنية بإصدار بيانات، فليست تجمعات سياسية أو نقابية أو ما شابه، والتوصيات تكون موجودة في ختام الأوراق المقدمة التي لديها توصيات وكفى، ولكن جرت العادة في المنطقة العربية أن تصدر المؤتمرات العلمية مجموعة من التوصيات موجهة إلى جهات بعينها، لعلها تستفيد منها، وهذا إجراء غير وارد في المؤتمرات العلمية الدولية.
ولابد من الإشارة إلى أن التسمية "مؤتمر الباحثين والخبراء اليمنيين" كانت موفقة إلى حد كبير، لأن المشاركين لم يكن جلهم أكاديميين أو علماء، كما أن استخدام الألف واللام التعريفين لا يعني بأن المؤتمر تضمن أو مثّل كل الباحثين والخبراء اليمنيين، ولكن جرت العادة هكذا في التسميات.

4- عادة ما تدعو اللجنة المنظمة للمؤتمر متحدثاً رئيساً (keynote) أو أكثر للحديث، خاصة في جلستي الافتتاح والاختتام، وهذه الأحاديث الرئيسة ليست أوراقاً مقدمة للمؤتمر في ذاتها، بل أحاديث عامة توجيهية أو أحاديث مراجعة لمستوى التقدم الحاصل أو ختامية عن "ماذا بعد؟" في إطار موضوع أو مواضيع المؤتمر، وليس خارجاً عنه!

5- في الحالة اليمنية، وفي ظل هجرة العقول والتدمير الممنهج للتعليم العام والعالي، وغياب ليس فقط التمويل والبنية التحتية للبحث العلمي، بل في ظل غياب للدولة ومؤسساتها، يكون انعقاد أي مؤتمر علمي يمني في أي مكان في الداخل أو الخارج، ليس فقط مما هو إيجابي ومفرح، بل يدفع بالأمل في الغد قدماً، ويشكل نوعاً متقدماً من الكفاح النوعي الخلاق من أجل غدٍ أفضل. فمجرد الانعقاد في ذاته يمنح الباحثين اليمنيين رئةً، ولو مؤقتة، يتنفسون منها، ومنصة يتواجدون عليها ويمارسون تبادل المعرفة والخبرات ونتائج أبحاثهم، ويعززون تواصلهم وإمكانات التعاون بينهم، إلخ!

6- مع الأخذ بالاعتبار ما جاء في النقطة الخامسة أعلاه، فإن أي توصيات قد تصدر عن باحثين أو عن المؤتمرات اليمنية، لن تجد طريقها لأحد، ولا طائل مباشر الآن منها، سوى ممارسة الأمر كطقس تعودنا عليه، ينتهي الأمر به في الأدراج. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجب أن نسأل: هل يجب أن ننتظر جميعاً عودة الدولة حتى نعمل من أجل مستقبل اليمن؟ والإجابة هي بكل تأكيد لا، الإجابة هي أن مجموع الأكاديميين والمهنيين اليمنيين في الداخل والخارج يستطيعون أن يُحضّروا لمستقبل اليمن ابتداءً من الآن وبشكل جمعي (أستخدم مفردة "جمعي" بدلاً عن جماعي حتى أتجنب وصف الأكاديميين والمهنيين اليمنيين بأنهم جماعات)، وهذا على وجه التحديد هو موضوع الجزء الثالث من هذا المقال.

7- كمقدمة للجزء الثاني الذي سيتحدث عن تفاصيل مؤتمر إسطنبول، أود إذ أشيد به أن أشير إلى شعار المؤتمر (مع أن المؤتمرات العلمية عادةً لا شعارات لها) وهو شعار "لا إمام إلا العلم!"، وأود الإشادة به، وهو كما أتوقع منقول بتصرف عن المقولة العظيمة والشهيرة للشاعر والفيلسوف العربي أبو العلاء المعري "لا إمام إلا العقل" في ديوانه "لزوم ما لا يلزم"، والذي فيه النص التالي:

يُرتَجى الناسُ أن يقومَ إمامٌ
ناطقٌ في الكتيبةِ الخرساءِ
كَذَبَ الظنُّ، لا إمامَ سوى العقلِ


مُشيرًا في صُبحِه والمساءِ

المعري هنا يقول إن الناس ينتظرون إماماً (قائداً أو مصلحاً) يقودهم بالحق، لكنهم — في رأيه — واهمون، لأن العقل نفسه هو الإمام الحقيقي الذي ينبغي اتباعه.
إذن لا إمام إلا العقل، وبكل تأكيد لا إمام إلا العلم، وأضيف إلى ذلك أن لا مستقبل إلا بالعقل وبالعلم.

طيب الله أوقاتكنّ وأوقاتكم أجمعين.
مصطفى بهران
أوتاوا - كندا
٢١ أكتوبر ٢٠٢٥

مقالات

ورحل محمد محسن الظاهري ابن الشعب

مآسي اليمن كثيرة وكبيرة، وفقدان العلماء الأجلاء، والمثقفين الثوريين، أساتذة العلم والمعرفة، أمثال الراحل الدكتور محمد محسن الظاهري، فاجعة موجعة. فعمق معرفته، وغزارة علمه، يعبر عنها بساطته وأدبه وتواضعه.

مقالات

الحوثيون في الاستراتيجية الإيرانية: تحول في ميزان الأدوار لا استبدال لحزب الله

تمثل تصريحات القائد العام للحرس الثوري الإيراني، اللواء محمد باكبور، مرحلة جديدة لإعادة تموضع إيران داخل ما تسميه طهران "محور المقاومة". يأتي هذا التموضع في سياق تصاعد الضغط الدولي على أذرعها التقليدية في لبنان والعراق، وبعد سقوط نظام الأسد في سوريا، وتراجع هامش المناورة لدى حزب الله نتيجة انكشاف جبهته الشمالية مع إسرائيل، وتصاعد خطر حرب واسعة في الجنوب اللبناني.

مقالات

نتنياهو والالتفاف على خطة ترامب

لا أحد يعلم ما الذي يريده بعد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، من الإصرار على الاستمرار في اختلاق الذرائع لاستئناف الحرب على غزة، رغم قبوله باتفاق وقف إطلاق النار المبرم بمقتضى خطةٍ الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، ورؤية قمة القاهرة لإحلال السلام.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.