مقالات
ما بعد حرب غزة
حسنًا فَعلتْ دولة جنوب أفريقيا في سحب إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية، ولأول مرة، بدعوى ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية.
وخيرًا فعلت دول الجامعة العربية، والسلطة الفلسطينية في عدم الانضمام إلى جنوب أفريقيا؛ لأنها - كما قال حافظة البرزاوي-: قد تكون عامل خذلان وتواطؤ؛ كما حصل في تقديم الإمارات العربية المتحدة للقرار المقدم إلى مجلس الأمن في الشهر الماضي، الذي تحول تحت الضغط الأمريكي من قرار لوقف الحرب إلى شرعنة استمرار الحرب، والسماح بدخول المساعدات تحت الإشراف الإسرائيلي، ولم يتم شيء.
الأسوأ من ذلك ما فعلته السلطة الفلسطينية من رفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية ضد نقل أمريكا سفارتها إلى القدس، يوم 14 مايو 2018، وتم تحديد الأول من يونيو 2021 للمرافعة، ولكن السلطة الفلسطينية تراجعت، وطلبت تأجيل النظر في القضية في 14 أبريل 2021؛ فالسلطة كالحكام العرب خاذلة ومخذولة.
إسرائيل، التي أقامت مجدها كله على الهولوكوست، وابتزت به -ولا تزال- العديد من بلدان ودول أوروبا الغربية تتحول إلى صانع هولوكوست في فلسطين، وهي الآن تُحاكم على جرائم الإبادة الجماعية في غزة.
وحقًا، فإن صُنَّاع الدولة الإسرائيلية، وتحديدًا أمريكا، وبريطانيا، وألمانيا المشاركين في حرب الإبادة، والمساندين والمشجعين عليها، شركاء في جريمة حرب الإبادة حسب القانون الدولي، التي تعني أيًا من الأفعال التالية المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية، أو أثنية، أو عنصرية، أو دينية. قتل أعضاء من الجماعة. إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة. إخضاع الجماعة عمدًا لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًا، أو جزئيًا، وهو ما يؤكد عليه نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية: "المادة الثامنة"، و"المادة الثانية" من القانون الدولي.
المقارنة بين مواد القانون الدولي عن جرائم الحرب، والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، بما في ذلك «الإبادة الجماعية»، (المادة الثانية)، ونظام روما الأساسي- بالمقارنة بين هذه النصوص، وبما جرى ويجري في غزة- تتبين فظاعة جرائم الإبادة التي تتجاوز النصوص والتصور؛ حيث يقتل في مئة يوم أكثر من أربعة وعشرين ألف شهيد، وهناك الآلاف تحت الأنقاض، وعشرات الآلاف من الجرحى، والمعوقون يتجاوزون الستين ألفًا.
المشردون من منازلهم المدمرة أكثر من مليونين. مدن وقرى وأحياء تشكل أكثر من 70% من قطاع غزة تباد وتُسوَّى بالأرض. تشوه كل معالم الحياة بما فيها المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس والمخابز، وتقتلع الأشجار، وتردم الآبار ومياه الشرب، وتقصف الكهرباء والطاقة الشمسية، ويُمنع دخول الغذاء والماء والدواء والوقود، وتُخَّرب الجسور والطرق ووسائل التواصل والاتصال، ويُقتل أكثر من مئة صحفي - شهود هذه الجرائم، ومدوني الحقائق.
حرب غزة تعني إعدام الحياة بكل مقوماتها. يتم تدمير كل شيء في غزة - كل غزة-؛ لتكون غير صالحة للسكنى. فهل لهذا كله غير معنى واحد: الإبادة الجماعية؟! كثيرًا ما يقال في أصول الفقه: "النص متناهٍ، والوقائع غير متناهية"، ولكن وقائع وفجائع حرب الإبادة في غزة غير مسبوقة في كل حروب التوحش والبربرية والإبادة.
والمفارقة أن المستعمرين والاستيطانيين الصهاينة صناعة صُنَّاع الهولوكست يجسدون، وعلى مدى 75 عامًا، مسلسل الهولوكوست عبر جرائم فندق داود، ودير ياسين، وبلد الشيخ في حيفا، وبحر البقر في مصر، وعشرات المذابح والاغتيالات، وثلاثة حروب ضد دول الطوق، وحروب متكررة في لبنان، وأخيرًا الأربع حروب الأخيرة ضد غزة، وهذا يجسد مقولة الإسرائيلي: أنا أحارب إذن أنا موجود.
كانت ردود محور المقاومة أقل من المتوقع، خصوصًا حزب الله في لبنان. وحقيقة الأمر، فإن الصراعات الطائفية، والمناطقية، والصراعات البينية والداخلية في الأمة العربية هي كعب أخيل في هذا الضعف الواصل حد الهوان، خصوصًا في ظل التطبيع؛ فالعالم كله يتحرك لنصرة شعب فلسطين، وضد حرب الإبادة، وجرائم الحرب غير المسبوقة، وضد الإنسانية، وبالأخص المظاهرات في الدول المشاركة في الحرب: أمريكا، وبريطانيا، أو المؤيدة كألمانيا، وإيطاليا، وفرنسا، لكن الشيء المخيف هو همود الشارع العربي.
الدمار الذي ألحقته حروب الاستبداد، والاستعمار، وصراعات ما قبل الدولة والوطنية لها الأثر البالغ في حالة الضعف في الموقف العربي، كما أن رغبة نتن ياهو، والتيار الصهيوني اليميني والعلماني في توسيع نطاق الحرب، وتحرك الأساطيل والبوارج الأمريكية والأوروبية تمثل تهديدًا للمنطقة كلها، وللمحيط؛ ولكن كل ذلك لا يبرر حالة الخذلان.
ما يضعف الموقف في محور المقاومة هو جعل الموقف القومي أو الديني تعويضًا عن إصلاح الموقف الوطني، وإصلاح الأوضاع الداخلية، كما أن عدم التخلي عن نهج التفرد وحكم الغلبة والقوة هو ما يحد من فاعلية وكمال نصرة غزة وصمود فلسطين.
غزة المحاصرة لأكثر من سبعة عشر عامًا تواجه الجيش الأقوى في المنطقة، والمعد لهزيمة كل جيوش المحيط بمشاركة قوى الاستعمار العالمي، وتأييد ومساندة أوروبا، في ظل عجز الحكم العربي عن فك الحصار، وإيصال الغذاء والماء والدواء لشعب يموت بالتجويع والتشريد والتقتيل الجماعي.
التصالح أو حتى التخلي عن المقدسات مع إسرائيل وهم وخداع؛ فالصراع مع إسرائيل صراع وجود، وما يجري في غزة وفي فلسطين لا يحدد مستقبل فلسطين وحدها كآخر مستوطنة استيطانية، ونظام فصل عنصري في العالم فحسب، ولا مستقبل الأمة العربية أيضًا، فما بعد الحرب على غزة والضفة الغربية ليس كما قبلها، وربما يكون التأثير أبعد من ذلك. طبيعة حرب الإبادة وتدمير كل معالم ومقومات الحياة والوجود الفلسطيني دلائل ذلك، وقد يكون الأمريكان والصهاينة هم الأكثر استشعارًا لمخاطر ما بعد الحرب.