مقالات

مرة أخرى ما بعد إبادة غزة

06/04/2025, 16:57:20

على مدى عام وخمسة أشهر يواصل الجيش الإسرائيلي حرب الإبادة في غزة، وتدمير المخيمات في جنين وطول كرم، واستباحة الضفة الغربية بما فيها القدس والأقصى؛ في ظِلِّ موقف دولي ضعيف، وهمود الموقف العربي حد التواطؤ ومشاركة البعض. كُلُّ ذلك دَفعَ بالدولة الصهيونية وإدارة ترامب إلى الإعلان عن الجحيم، والإمعان في الإبادة المستمرة، وتدمير كل شيء، وتهجير الغزيين المتكرر من شمال وجنوب غزة، وحرمانهم من الماء والزاد والدواء.

هذا هو الجحيم الذي توعدهم به ترامب ويقوم الآن بممارسته مع تابعه نتنياهو، ولا خيارَ أمام أهل غزة سوى الفرار من الجحيم، أو الصمود ومواجهة هذه الإبادة.

ما يجري على أرض فلسطين يتجاوز الضفة والقطاع. فإسرائيل الآن تستبيح لبنان وسوريا، وجيشها يعسكر في أهم المواقع بالجنوب اللبناني، مع تواصل القصف على لبنان؛ لمنع قيام دولة آمنة ومستقرة ليست في مواجهة مع إسرائيل، كما تقوم باجتياح جنوب سوريا، واضعةً دمشق تحت رحمة المدفع الإسرائيلي، ويتواصل قصفها لتدمير ما تبقى من قوة سورية، كما يواصل قصفه باتجاه درعا؛ ليصل إلى الجزيرة حيث القاعدة الأمريكية في «التِّنِف»، والتواصل مع قوات قسد المحمية من أمريكا؛ وهي على خلاف مع تركيا والحكم السوري السابق واللاحق.

الطريق سالكة أمام الجيش الإسرائيلي للوصول إلى القاعدة الأمريكية في «التِّنِف» والجزيرة؛ حيث سلة غلال سوريا، وتوفر الثروة البترولية السورية، ويصبح الجيش الإسرائيلي على أبواب العراق والأردن، وأقرب ما يكون للحدود السعودية، وفي تهديد شبه مباشر لإيران وتركيا.

ربما اعتقد البعض أنَّ تقديم فلسطين كقربان لآلهتي الحرب: أمريكا، وإسرائيل سيكف غرامها بالتوسع والاحتلال، لكنَّ احتلال أكثر من نصف فلسطين في نكبة 1984 كانَ أحد أسباب إعاقة الوحدة العربية، وحال دون قيام سيادة واستقلال حقيقيين، كما أسهمَ في إعاقة التنمية والبناء والتحديث والأمن والسلام في المنطقة العربية.

أمَّا بعد قيام إسرائيل من البحر إلى النهر، فإنَّ المنطقة كلها ستصبح تحت ماكينة الجيش الإسرائيلي، وستصبح الصهيونية العالمية والإمبريالية الأمريكية العالمية الحكام الفعليين للمنطقة العربية وحماة ثروتها؛ وحامي الثروة هو سيدها حقًا.

الحكم العربي -ثوريًّا كان أو رجعيًّا- غَيَّبَ إرادة الأمة، وأضعفَ حبَّ الأوطان في نفوس أبناء الشعوب العربية، وسلب الأمة القدرة على مقاومة الأجنبي، وربما رأى بعضهم في الأجنبي مُنقِذًا وخلاصًا من نيِّر الاستبداد، فيقف من الغازي المستعمر موقف المتشفي من الطاغية المحلي. ولا يزال الشعب العربي ينوس بين استبداد القريب، واحتلال الأجنبي؛ ومِنْ مُستَعْمِرٍ غازٍ إلى مُسْتَعمِرٍ وطني كإبداع شاعر العرب عبد الله البردوني.

في الحالة العربية الكارثية يجتاح الجيش الإسرائيلي المنطقة العربية كلها، ولا يمكن الرهان على الطوائف، ولا على القبائل والعشائر والأُسَر، ولا على بقايا الثورة القومية الهالكة، ولا السند الإقليمي من بابٍ أولى، وإنَّما الأهم هو التصالح الوطني والمجتمعي داخل كل قطر على حِدَة، واحترام الأقليات الدينية والمذهبية، وتثمين التنوع والتعدد والاختلاف داخل هذه الأقطار، والمصالحة العربية- العربية، فما تقرأه اليوم وستقرأه غدًا أكثر هو أنَّ جلادي اليوم هم ضحايا الأمس. فلا بُدَّ من مصالحة مجتمعية وطنية حقيقية؛ لمواجهة خطر الإبادة الذي لن تقف عند غزة، ولن تكتفي بتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه. فقد أكدت حرب الإبادة في غزة وما يجري الآن في الضفة الغربية وسوريا ولبنان أنَّ الحليف الأساس لأمريكا هو الصهيونية العالمية وأدتهما الحربية إسرائيل التي تمتلك التأييد المطلق في إعادة صياغة المنطقة، وتأسيس شرق أوسط جديد، وما تحالفاتها مع الأنظمة التابعة أو الإقليمية إلا خاضعة بالأساس للصهيونية. فإسرائيل هي الوكيل الأوحد، ولا يعطى لمصر الاعتبار اللائق، وهي الآن تتعرض للتهديد من قادة إسرائيليين لوجود جنودها في غزة وسيناء، وتواجدها لمنع تهجير الغزيين إليها.

تدرك مصر أنَّ اليمين الديني والصهيوني الحاكم يعتقد أنَّ سيناء هي أرض التوراة، كما أن دعاواها في سيناء وفي الأهرام أيضًا أكبر من دعاواها في غزة.

الوضع الحالي كارثي بكل المقاييس. فالقوة العسكرية العربية دُمِّرَت في العراق وسوريا وليبيا والسودان واليمن، وهي شبه محاصرة في مصر، ثم إنَّ الأنظمة التابعة تنتظر عدالة الحامي الأمريكي المشغول بقضايا أكبر وأهم، وقد يوكل الحماية للوكيل الأساس (إسرائيل)، كما أنَّ اليمين الصهيوني الحاكم يهرب من فساده وأزماته الداخلية الطاحنة إلى تدمير المناطق العربية التي سبقه إلى تدميرها الحاكم العربي المستبد والفاسد.

ربما أنَّ أمريكا - في سياق نظرية برنارد لويس ونهج إسرائيل- تريد العودة بالمنطقة إلى عصر ما قبل الوطنية والدولة؛ وهذا يضمن لها التسيد المطلق، ويُمَكِّنَها من وضع اليد على الثروة، واللعب على صراعات «الأخوة الأعداء».

نقرأ مفجوعين نبوءة الشاعر الفلسطيني محمود درويش:

أرى دُوَلاً توزعُ كالهدايا

وأرى السبايا فيك تفترسُ السبايا

كنا في الماضي نتغنى بالوحدة العربية:

بلاد العرب أوطاني من الشامِ لبغدانِ

ومِنْ نَجْدٍ إلى يَمَنٍ إلى مِصرٍ فَتطوانِ

وتباكينا في السبعينيات والثمانينيات عليها، ولكن الآن سوف نبكي الوجود العربي ذاته.

عِجِزَ النظام القطري -فعلاً- القومي -اسمًا- عن إنجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية، وحماية السيادة والاستقلال والتراب الوطني، أمَّا الأنظمة الطوائفية فهي رافعة راية الاسستسلام منذ البدء.

واهمٌ مَنْ يعتقد أنَّ إسرائيل في لحظة نشوة الانتصار بصنع الشرق الأوسط الجديد مهتمة بالتطبيع، أو أنها متعطشة للتطبيع الإبراهيمي. فإسرائيل الآن، وبدعمٍ أمريكي مطلق، تريد التسيد على المنطقة، ووضع اليد على ثروتها، وإعادة المنطقة كلها إلى مكوناتها الأولى: القبلية، والطائفية، والجهوية، وتعيش في حالة تصارع، واحتياج دائم للحامي، وليس من حامٍ غير أمريكا وإسرائيل.

 

مقالات

"طِلْبة الله" أم "موهبة الله"؟

زاد اهتمام اليمنيين بالفن في سنوات الحرب والتشظي والشتات، كأنه ملاذ يهربون إليه لاستعادة إحساسهم بالانتماء الجمعي لبلد يكاد أن يفلت من أيديهم إلى الأبد.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.