مقالات

مليون عقل في قبضة الكهنوت

29/07/2025, 06:04:40

كل يوم وأنا أزداد غرقًا في قلقٍ لا يهدأ، قلقٌ متراكم، متجذّر، يتسلل إلى أعماقي كلما تأملت ما يحدث للشباب في مناطق سيطرة مليشيا الحوثي. هناك شيء مرعب يجري بصمت، أشبه بعملية سلخ جماعي للعقول، بترٌ ممنهج للوعي، وتفريغ متعمد للذاكرة، وإعادة تعبئة العقول بأفكار مسمومة لا تنتمي للحياة، ولا تُنتج إنسانًا، بل تُخرج آلات طيّعة، مبرمجة على الكراهية والخضوع. معركتنا اليوم لم تعد عسكرية في ظاهرها فقط، هي أعمق، أكثر تعقيدًا، وأكثر إيلامًا، إنها معركة على الوعي ذاته، على الروح، على الفكرة التي تشكّل الإنسان.

قد يبدو للبعض أن الحديث عن "الوعي" مكررًا، وموضوعًا مُستهلَكًا، خاضعًا للابتذال في بعض الأحيان، لكنه في جوهره ليس كذلك، لأننا لم نخضه بعد بجدية، ولم ندخل تلك المعركة كما يجب. الوعي لا يُصنع بالهتاف، ولا يُحمى بالشعارات، ولا يُغذّى بالمناكفات السياسية، هو مشروع مقاومة داخلية طويلة الأمد، مشروع ترميم لما تهشّم، وإحياء لما تم اغتياله في الأذهان. مليشيا الحوثي لا تعبث بواقعنا المادي فقط، بل تقود أعمق عملية تزييف للوعي شهدها هذا البلد، تفكك الإنسان من داخله، وتعيد بناءه على صورتها.

في خطابه الأخير وقف زعيم الجماعة الضالة متفاخرًا بتصريحٍ مرعب: تدريب أكثر من مليون شاب خلال فترة زمنية قصيرة. مليون شاب، مليون عقل، مليون ضحية. هذا الرقم ليس عرضًا إحصائيًا عابرًا، إنه إعلانٌ صريح عن نية استكمال السيطرة على ما تبقى من الإنسان اليمني. تخيّل حجم الفاجعة حين تُحقن هذه العقول، بشكل متواصل، بأفكار عدوانية، وبمفاهيم مغلقة، ومعتقدات تسلب الإنسان قدرته على التفكير، وتزرع فيه الطاعة كقيمة مطلقة، والانصياع كفضيلة عليا.

هذه ليست مجرد عمليات تدريب، بل طقوس تحويل، طقوس تشييع جماعي للعقل اليمني. إنها تعبئة نفسية، أيديولوجية، وعقائدية، تنتج مقاتلين مبرمجين، لا جنودًا فحسب، مقاتلين لا يسألون، لا يعترضون، ولا يفكرون، ينفذون كما يفعل الظل حين يُلقى به على الجدار. هذا الجيل المُعبّأ لن يكتفي بخدمة مشروع العنف، بل سيتحول في المستقبل إلى أداة دائمة في يد الكهنوت، أداة تستخدمها الجماعة لتطويع المجتمع كله، وتحويل كل صوت حر إلى صدى مطمور تحت الركام.

وفي الوقت ذاته، نحن نغرق في تفاهات لا أول لها ولا آخر. ننشغل بخلافاتنا اليومية، نستهلك وقتنا وجهدنا في مناكفات لا تُنتج موقفًا، ولا تحمي فكرة. نتهاوى داخليًا بينما الخصم يبني جيوشه الفكرية والعقائدية خطوة بخطوة، دون توقف. الحوثي لا ينام، لا يكل، لا يهدأ. بينما نحن ننام على صوت خطاب فارغ، ونستيقظ على صراع داخلي جديد، كأننا نعمل على تفكيك أنفسنا بأيدينا.

ما يدور في الجبهات ليس سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد، أما الخطر الحقيقي، فيكمن في ذلك الجيش الخفي، الجيش الذي يُربّى الآن في المراكز الصيفية، في الدورات الثقافية، في المدارس التي تم الاستيلاء عليها، في البيوت التي اختُطفت أفكارها. هناك جيل بأكمله يُعاد تشكيله. يُسلَب منّا تحت سمعنا وبصرنا، دون أن نُحرّك ساكنًا.

هذه ليست لحظة عابرة في تاريخ بلد، هذه لحظة مفصلية تُعيد رسم ملامح المستقبل، وتحدد مصير أمة. وإذا لم نواجه هذا المشروع الطائفي بعقلٍ واضح، ووعيٍ متيقظ، وحضورٍ فكري وثقافي مقاوم، فسنجد أنفسنا بعد سنوات أمام واقع لا يمكن تغييره، أمام جدار صلب من العقول المشبعة بالتحريض والخرافة، والمغلقة أمام أي أفق للتغيير أو الحياة. المعركة الفكرية لا تقل دموية عن المعركة في الميدان، وغالبًا ما تكون أكثر فتكًا، لأنها لا تُشاهد بالعين المجردة، بل تُحفر في الأعماق، وتعيد تشكيل الإنسان من الداخل، الإنسان الذي لا يعود بعد ذلك ذاته، ولا يعود ملكًا لمجتمعه، بل يتحول إلى أداة تُستخدم ضد أهله، وضد وطنه، وضد ذاته.ق

وما يزيد الطين تكدسًا فوق أرواحنا، أن هذه المليشيا لا تكتفي بتجنيد العقول وتفخيخها، بل تتهيأ في الوقت ذاته لتصعيد عسكري جديد، بينما نحن في الجانب الآخر نغرق في شجارات صغيرة، نتلهى بقضايا هامشية، ونتنازع على غنائم لا وجود لها. تغيب الرؤية الكبرى، ونتحول إلى كتل مشغولة بذاتها، تعيش لحظة ضجيج فارغ، وتستهلك الوقت والطاقة في مناكفات لا معنى لها. خصمنا لا يضحك من ضعفنا العسكري، بل يفرح بفوضانا الفكرية، لأنها تمنحه الوقت الكافي لتوسيع مشروعه، ولزرع مزيد من الخلايا في جسد الأمة.

عدونا لا ينام، لا يستريح، لا ينكفئ. لأنه يخوض معركته الخبيثة في صمت، داخل الجدران، في المدارس التي تم الاستيلاء عليها، في المراكز الصيفية التي تم إعدادها بدقة، في الأحياء، في المساجد، في المنازل التي تُفرغ من محتواها وتُعاد تعبئتها بخطاب الكهنوت. الحرب التي يخوضها ليست فقط بالبندقية، بل بالكلمة، بالعبارة المحشوة بالتحريض، بالمقرر الدراسي المغلف بالخرافة، بالخطاب المسموم الذي يُلقن ليلًا ونهارًا.

المعركة التي نخسرها في الذهن، نخسرها لاحقًا في كل الميادين. نخسرها في الجبهات، وفي الطاولات، وفي الحارات، وفي البيوت، وفي الأرواح التي تُولد في هذا الوطن ولا تجد إلا السواد والشك والشتات. الهزيمة الفكرية هي أصل كل هزيمة ميدانية، وكل رصاصة تُطلق اليوم سبقتها فكرة، وكل انكسار في الجبهة سبقه انكسار في المفهوم، والوعي، وفي البوصلة.

ما يجري الآن هو استثمار طويل الأمد في الخراب، ومن لا يدرك ذلك، سيفيق متأخرًا، على وطن يتنفس العبودية، وعلى جيل لا يعرف الفرق بين الله والكهنوت، ولا يرى في القيد إلا قداسة.  لا يكفي أن نحزن، ولا أن نغضب، ولا أن نكتب، أمام هذا المشهد؛ يجب أن نتحرك في عمق المعركة، أن نعيد بناء الإنسان، ونُحارب هذا الزيف بالفكرة، ونستعيد الأرض من داخل الرأس قبل أن نفكر في استعادتها على الخريطة.

مقالات

اليمن في قلب حرب صامتة

لم تعد الحروب في هذا العصر تتطلب إعلانًا رسميًا أو دويًا للمدافع كي تبدأ، فقد دخل اليمن، ومعه عدد من دول الإقليم، في مرحلة "الحرب الصامتة"، أو ما يُعرف في الأدبيات الإستراتيجية الحديثة بحروب "الجيل الرابع والخامس"، حيث تُخاض المعارك دون جبهات تقليدية، بل عبر أدوات خفية تتمثل في الحصار الاقتصادي، الإغراق الإعلامي، تفكيك مؤسسات الدولة، وإعادة إنتاج الفوضى بأساليب غير معلنة.

مقالات

معركة النفس الأخير

نهاية صالح تشبه نهاية العقيد الليبي معمر القذافي. تقديري أن كل من شاهد الفيلم الوثائقي في قناة العربية، أو البعض منهم، سيخرج بهذه النتيجة.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.