مقالات

هل ظلوا الطريق؟

07/04/2025, 19:19:53

بالأمس القريب، قرأت مقالًا في أحد المواقع التابعة لأحد الأشخاص، يهاجم باسم مستعار صحفيين ووسائل إعلام لا يختلفون عنه في الاتجاه العام، بل يسيرون معه في ذات الطريق، يحملون الهم ذاته، ويرفعون الشعارات ذاتها..

أسفت لأن الحرب لم تُعلّمهم شيئًا، والغربة لم تفتح قلوبهم، والمعاناة المشتركة لم تُقرّبهم من الآخرين،
كأنّ كل ألم مرّوا به لم يكن كافيًا ليعلّمهم معنى الترفّع.

كأنّهم لم يخرجوا من الحرب إلا وقد ازدادوا حقدًا، وتضاءلت إنسانيتهم أكثر.
هل يعني أن تمتلك نافذة إعلامية، أو موقعًا إلكترونيًا، أن تصبح خصمًا وقاضيًا وجلادًا؟

أن تخلع عن نفسك اسمك الصريح، وتلبس قناعًا مستعارًا، لا لتقول الحقيقة، بل لتطعن بها؟

هل من الشجاعة أن تكتب خلف الجدران، وتكيل الشتائم لمن يختلف معك، لا لشيء إلا لأنه نجح، ولأنه لا ينتمي إليك؟

السؤال الأهم، والأكثر مرارة: كيف تُهدر الأموال على مؤسسات إعلامية لا تنتج معرفة، ولا تصنع وعيًا، ولا تُسهم في البناء؟

مؤسسات تُنفق على من لا يعرفون الفرق بين النقد والتجريح، ولا بين المعارضة والحقد، الذين يظنون أن امتلاكهم المِنصة يمنحهم الحق في تقزيم من يعمل، وفي تصفية حساباتهم الشخصية تحت عباءة الرأي العام.

أيعقل أن تتحول حرية الصحافة إلى حرية الشتم باسم مستعار؟
وأن يُكافَأ التهجم، ويُجَهَّل الإنجاز، وتُدان التجربة لمجرد أنها ليست من داخل “القطيع”؟

وهل ننتظر ممن يكتبون بأسماء مستعارة أن يحموا الحقيقة، وهم لا يجرؤون على توقيع كلماتهم؟

إن الإعلام، حين يُدار بهذه الطريقة، لا ينهض بالمجتمع، بل يغرقه في دوامة من العبث، يخلق الضجيج لا الحوار، ويمنح الميكروفون لا لمن يملك الفكرة، بل لمن يتقن الضرب تحت الحزام.

ومرة أخرى، تبرز المفارقة الجارحة:
الهامش الذي فُتح ليكون مساحة للناس، صار مأوى للتشهير.
والمِنصة، التي أُنشئت لتُخبر عن الناس، تحوّلت إلى مسرح تصفية.
فأي وعي هذا؟ وأي معركة تلك التي تُخاض بالسكاكين بدل الكلمات؟

والسؤال المُرّ:
إن لم نخرج من الحرب أوسع أفقًا، وأرحب صدرًا، وأقرب لبعضنا، فمتى نتغيّر؟

وإن لم تُشفِنا الغربة من عاهاتنا الحزبية ومن أمراضنا الذاتية والشخصية، فمتى نُشفى؟

بالأمس البعيد، خرج الناس بحثًا عن وطن يُنصفهم، وعن دولة تحميهم، وعن حق يُسترد، وعدالة تُقام، وكرامة تُصان.
خرجوا لأنهم حلموا، وآمنوا، وصدّقوا أن هذا الوطن يستحق الأفضل. أما اليوم، فالأحلام ذبلت، والآمال اختنقت.

المرض يُنهك الفقراء، الجوع يفتك بالناس، الكرامة تُهان عند أبواب المستشفيات، والحياة نفسها أصبحت عبئًا ثقيلاً على أكتاف البسطاء.

وفي هذا المشهد الكارثي، ماذا يفعل بعض الكتبة؟
ينشغلون بصغائر الأمور، يتفرّغون للنيل من شخصيات، وتحطيم مبادرات، وتسفيه تجارب. يكتبون بأسماء وهمية، لا لمواجهة الظلم، بل لممارسة غرائزهم الخاصة.

أليس من الأولى أن تُسلّط أقلامهم على الفساد، على الجوع، على انعدام الدولة، على الأحزاب الكرتونية، على المرتزقة باسم الوطن؟

أليست اليمن المجروحة، بكل هذا الألم، أحقّ بأن تُنصر بالكلمة، لا أن تُستنزف بها؟
أين ضمير المثقف؟

أين تلك البوصلة الأخلاقية التي تجعل من الكلمة أداة للبناء، لا للهدم والحقد؟

المثقف الحقيقي لا يكتب ليُرضي جماعته، ويهاجم خصومه، بل ليقول ما يعتقد أنه الحق، حتى لو وقف وحيدًا.

إن دور المثقف الآن، أكثر من أي وقت مضى، هو أن يُصوّب البوصلة، ويصرخ في وجه الغياب، ويذكّر الجميع أن معاناة الناس ليست وجهة نظر، بل حقيقة دامغة لا تُغطّى بالحملات المنظمة، ولا بالتغريدات الحاقدة.

أسئلة لا تُطرح للتشكيك، بل للنجاة.
فالبلاد تُنادي، والناس يصرخون، والفقر يتكلم بألف لسان.
والمثقف الذي لا يسمع، ولا يرى، ولا ينحاز للحق في أحلك ظروفه،
ليس مثقفًا، بل شاهد زور في زمن الخديعة.

متى يدركون أنني إذا خالفتك الرأي، فلست عدوك؟
وإذا تبنّيت نهجًا أو فكرة، فلست خصمك؟
وإن ابتكرتُ مجالًا أو فتحتُ نافذة، فهذا ليس ضدك، ولا انتقاصًا منك؟
متى يفهمون أن التنوّع لا يُفزع، وأن الاختلاف لا يُقصي، وأن النجاح لا يُقاس بضرب الآخرين؟

متى يؤمنون أن الحياة تتسع لنا جميعًا، ولكلٍّ منا طريقه وصوته ومجاله، وأن الضوء لا ينقص إن أضاء غيرك، بل يزداد إشراقًا واتساعًا؟

متى يعلمون أن احترام الآخر لا يُنقص من مكانتك، بل يرفعها، وأن الأمان الحقيقي يكون بالفكرة لا بالخوف، وبالإنجاز لا بالإقصاء؟

فهل يستفيق هؤلاء من سباتهم، أم أنهم ظلو الطريق؟

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.