مقالات

وائل الدحدوح.. نموذج للإنسان الأعلى

14/01/2024, 11:10:02

في خاطري وائل الدحدوح، كلما انشغلت بفكرة أخرى يعاودني طيفه دونما استدعاء منِّي. شيء ما يقول لي: كل المواضيع أقل أهميّة منه، كل الأفكار باردة. وحده الدحدوح فكرة تضخ حياة ملء الحياة، إنّه ليس فكرة بل نبع يفيض ولا يهدأ، مجرى تتكثّف في شخصه الأفكار، وتُشعّ الحكمة من كامل حكايته. 

كان الكثير يعرف وائل كمراسل في قائمة طويلة من زملاء المهنة. لكن صورة أخرى تكشّفت بداخله هذه المرَّة. حروب كثيرة تحدث، ووقائع خطيرة تندلع هنا وهناك، ويهرع لتغطيتها مراسلون كثر، وببراعة كاملة. غير أنّ حرب غزة لم تكن حدثاً يكفي لتغطيته أي شخص يُتقن الشغلة. 

كانت الحرب ملحمة نادرة، وكان وائل روحها العالية، كان رمزها الكبير، تمثال ارتفع في قلب الخراب، كان الخراب يتسع ووائل يزداد سعة. ظل يتصاعد بقوة مضادة وكافية لترسم الصورة بأقصى قدرة يمكن للبطل بلوغها. 

ما من مراسل -مهما بلغت براعته- كان بمقدوره أن يواكب صورة المذبحة كما فعل الدحدوح. لم يكن الميكرفون كافياً، فالحدث يتجاوز الصوت والصورة، ويحتاج عناصر أخرى؛ لتنجح بنقل المشهد بقوة أكبر.

الحدث كان يتطلب فدائيا؛ كما جسّده الدحدوح تماماً، لقد تمكّن أن يدفع بالصورة حتى أشد مستوياتها وضوحاً؛ بصوته وثباته وباللحم والدم. براعة الدحدوح لا تكمن في شجاعته النادرة، بل ونجاحه بتجسيد نموذج صحفي ملائم للحدث. حيث القيمة الأخلاقية ليست منفصلة عن المهنة والموقف الإنساني ليس شأنا شخصيّا معزولا عن المشهد. 

لقد صار أشبه بمنهج جديد يخترق أكاديمية الصحافة الباردة، ويبتكر طريقة أكثر حيوية ونابعة من حالته الخاصة. لقد صمم المنهج الغربي مدارس للصحافة، تُحيل المهنة إلى أداء روتيني جاف يتحول بموجبها الصحفي والمراسل لآلة تسرد عناصر الحدث دون أن تتورط بتقديم ملمح شخصي وذاتي عمّا يجري.

هذا النهج جيّد لتغطية الوقائع، لكنه ليس صيغة نهائية وشاملة لتصوير الواقع بدقة؛ حينما تكون الواقعة مماثلة لحرب غزة. 

لكأن حرب غزة واقعة كونية ذات خصائص تتجاوز أنماط الصراع البشري كله. إنها اشتباك يستدعي نموذج صحافة مختلفة، صحفي مثل وائل نجح في ابتكار إضافة تستوعب الحكاية. لم يتخلّ عن مهنيته؛ لكنه أضاف لها الحماسة والفداء، البطولة والثبات، الصلابة والدم ينزف من سواعده. 

الخلاصة: 

إن كان هناك من فكرة يمكن لوائل الدحدوح أن يعلِّمها للبشر، فهي الحكمة الأقصى في الحياة، الحكمة الأخيرة، تلك التي تقول للإنسان: أنت لا تملك شيئاً في الحياة، كل ما تعتقد أنك تملكه هو وهم عقلي فحسب. وأن طريقتك الوحيدة لاكتساب القوة الكلية في الوجود هي تدريب نفسك على فقدان كل روابط بالعالم، وقياس قدرتك على الاستمرار وقد فقدت كل ما يربطك بالحياة. 

الدحدوح ليس مقامراً يحاول اكتساب صفة البطولة على حساب نفسه. ليس حجراً يتكسر ولا يئن، ليس قاسياً ليفقد أهله ويواصل المشوار. لكنه مثالاً للإنسان وقد تمثّل قوة التخلي، إنسان لم يعد يملك شيئاً غير أنه مملوك لحقيقة أكبر منه، منذور لوعد أبدي، مشدود لقوة غيبية. أول نسخة للمسيح في حقل الصحافة. مستعداً لأن يُصلب على أن ينال أهله وبلاده حريتهم الكاملة.

هل هذه قوة حقيقية للإنسان أم أن الدحدوح يُصطّنع الثبات؛ كي يتجلى فرداً خارق الروح؟ هل يمكن للإنسان فقدان كل شيء، ومع ذلك يواصل الحياة كأن شيئاً لم يحدث..؟ 

يقول الفلاسفة الرواقيون، المؤمنون الكبار والمتصوفة: "إن الأمر ممكن". أيكون الدحدوح مثالاً للإنسان الأعلى، للمخلوق ذي الطباع الألوهية، والقوة الروحية الفائقة؟ ربّما.

مقالات

أبو الروتي (29)

بعد مرور عام على انتقالي إلى فُرْن العيدروس، وبعد أن تكيًّفت مع المكان، وصار لي علاقات وصداقات، كان عليَّ -أنا المصاب بلعنة الأفرَان- أن انتقل إلى فُرْن آخر، لكن الفُرْن هذه المرَّة كان ملكنا.

مقالات

المجلس الرئاسي: سلطة بلا روح

ثمة لحظة في التاريخ، حين تبلغ السلطة ذروتها في التكرار الفارغ، وتغدو الدولة مجرد قشرة بلا لبّ، مجرد طيف بيروقراطي يمرّ كل صباح على نشرات الأخبار دون أن يمسّ الواقع.

مقالات

بلد قيد "التشليح"!!

على وقع الحملة العسكرية الأمريكية على الحوثيين في الشمال، هناك هجمات متبادلة بين طرفي التحالف في الجنوب.

مقالات

أزمة العرب وأدوات السلطة والتشريع.. قراءة في الجذور

لا تزال أدوات الحُكم والتشريع في البلاد العربية خاضعة لمنطق السيطرة السياسية، وليس المشاركة الشعبية، إذْ أن غالبية الأنظمة القائمة لم تصل إلى الحكم عبر آليات ديمقراطية حقيقية، ولا مزيّفة، ولا تمارس سلطتها من خلال مؤسسات ديمقراطية مكتملة، وحتى حين تتوفر بعض النوايا الإيجابية

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.