مقالات

يسلم باسعيد: صوت الرحيل ودموع المسافر في "سُلّم الطائرة"

17/11/2025, 15:33:45

كتب الشعر كما تُكتب المنافي على الأرواح؛ كتب الحب كما يكتبه العابر خائفًا من أن تتساقط منه بقية قلبه، وكتب الأغنية كمن يخطّ صوته على زجاج الريح. على متن الطائرة وُلدت أغنية "سُلّم الطائرة"؛ لم تُشغله الغيوم المعلقة فوق الوجود، ولم يفتنه اتساع النوافذ، فقد كان غارقًا في تلك الدموع التي باغتته وهو يصعد السُلّم، دموعٌ تشبه احتجاج القلب على قدره، وتشبه الوصايا الأخيرة للمسافر حين يودّع ظلاله.

ومن تلك الدمعة، انبثقت الأغنية التي أطلقت شهرته، وكانت بمثابة مرآة صوتية لكل أعماله. لحّنها وغنّاها طلال مدّاح، ليصبح اسم يسلم بن علي باسعيد شريكًا في ذاكرة الطرب العربي. ويروي ابنه عبد المنعم أنّ أول خيط جمع بين والده وطلال مدّاح بدأ قبل ذلك، حين هاجر الشاعر إلى السعودية أواخر خمسينيات القرن الماضي، يحمل حقائبه ولغته ووجدان الريف اليمني. هناك كتب القصائد، وبدأت شراكة الفن تتشكّل. إذ كان أول تعاون له مع طلال مدّاح عام 1961 في أغنية "يا عسكري فك الإشارة"، التي لحنها مدّاح قبل أن يخطفها بصوته الفنان عبدالله النجار. انتشرت الأغنية في زمن الأسطوانات، ذلك الزمن الذي كانت الأغنية فيه نافذة يتنفس منها الناس، لا مجرد ترف موسيقي.

غنّى كلمات باسعيد كبار الفن: أبو بكر سالم، طلال مدّاح، محمد حسن عطروش، رباب، عتاب، وغيرهم كثيرون. وكان مذهلًا كيف تتنقل قصيدته من حنجرة إلى أخرى دون أن تفقد روحها، وكيف تحتفظ ببريقها وهي تعبر من لهجة إلى لهجة، ومن مدينة إلى مدينة. كانت قصيدته مثل طائر يعرف طريقه، لا يضلّ، ولا يسمح للريح أن تسرق بوصلته.

وحين طلب طلال مداح منه أن يواصل نظم الشعر له، كتب باسعيد عام 1963 أغنية "سُلّم الطائرة" التي أصبحت نشيدًا للمغادرين، ورفيقةً لخطوات المسافرين في مطارات السعودية؛ إذ كانت تُبث عبر مكبرات الصوت عند صعود الركاب، كأنها تُسافر معهم، أو تودّعهم، أو تُذكّرهم بأن الرحلة الحقيقية لا تجري في السماء، وإنما في داخل الإنسان نفسه.

لم يكن يسلم باسعيد شاعرًا غنائيًا فحسب؛ كان روحًا من أرواح الأغنية اليمنية التي تسلقت جدران الجغرافيا، وامتدت في الخليج والعالم العربي دون أن تحيد عن جذورها. ولد في قرية عمقين بروضة شبوة، في بيت كان الشعر فيه جزءًا من الخبز اليومي، وتشرّب طفولته بنبرة أبيه الشاعر البارز. هناك، في الريف المعانق الصمت، تعلّم كيف تُصاغ الكلمة، وكيف يلمع المعنى حين يمرّ في قلب شاعر.

غير أن هذا المبدع الكبير عاش إهمالًا مريرًا. لم يجد في حياته الاحتفاء الذي يستحقه، ولم يُنشر له سوى ديوان واحد، “دموع المهاجر“، قبل وفاته بعام، بطبعة هزيلة لم تتجاوز المئة والخمسين نسخة. كان يحلم بأن يرى ديوانه ينتشر، ويصل إلى كل القلوب، لكن الحلم ظل عالقًا بين الرفوف، بينما بقيت أعماله الأخرى مبعثرة في صحف ومجلات، تنتظر يدًا تُعيد لها حضورها قبل أن تذوب في غبار النسيان.

وفي مثل هذا اليوم، 17 نوفمبر 2012، رحل يسلم بن علي باسعيد؛ لكن روحه لا تزال تتردد في تلك الأغنية التي صعد معها سُلّم الطائرة؛ الأغنية التي حملت وجعه، وفتحت له باب الخلود. وبين دموع المهاجر و"سُلّم الطائرة"، يبقى باسعيد واحدًا من الذين منحوا الأغنية الحضرمية جناحين، وجعلوا للكلمة اليمنية ظلًا أطول من حدود المكان، رغم الإهمال الكبير الذي واجهه حيًا وميتًا.

مقالات

قراءة مكملة لمقال الدكتور ياسين سعيد نعمان “مكر التاريخ”

لا يستطيع قارئ منصف تجاهل القيمة التحليلية العالية التي حملها المقال الأخير للدكتور ياسين سعيد نعمان، ولا عمق تجربته السياسية الممتدة التي تشكّل رصيدًا نضاليًا لا يُستهان به. فالرجل يتحدث من موقع الشاهد والفاعل، ومن زاوية ترى المشهد اليمني بقدر من الهدوء والخبرة قلّ أن تتوفر اليوم في خضم الصخب الدائر.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.