مقالات
11 فبراير.. ميلاد جيل جديد.. (الثورة كهُوية شخصية)
يمكن الحديث عن الثورة من زوايا كثيرة: سياسية، اقتصادية، عوامل نجاح الثورة وتعثرها، سلوك النّخبة.. إلخ، غير أن كل تلك الزوايا والمقاربات قد أشبعها الناس تناولًا وبصُوَر متكررة ومتفرّقة، فيما تظل الثورة كحدث شامل، تتضمّن معاني كامنة في نفوس الكثير، ولم يحدث أن طُرقت جيداً، من هذه الزوايا: دور الثورة في تشكيل الشخصية اليمنية للجيل الجديد.
لم تكن ثورة فبراير حدثا سياسيا جافا واحتجاجا ذا طبيعة عمومية يهدف إلى تغيير النظام السياسي فحسب، لقد كان أكثر من ثورة وأقرب إلى عملية انقلاب وجودي شامل، لدى الجميع، لدى أنصار الثورة من جهة أساسية، ويمتد الأثر ليحدث هزّة لدى المجتمع، مؤيداً كان للثورة، أو من أنصار النظام.
إذا ما أخذت عيّنة عشوائية من شباب الثورة، ثم سألتهم ما الذي تعنيه فبراير لك..؟ ستجد إجابات متفرّقة، وحين تحاول أن تضعها جوار بعض، ستخرج بفكرة جوهرية تفيد وتؤكد بأنك أمام حدث أسهم في إعادة صياغة الهُوية الشخصية لدى طيف واسع من جيل الثورة.
هناك نظرية في علم النَّفس تُدعى: النظرية السردية، وفكرتها الأساسية تنطلق من أن لكل إنسان قصته الخاصة، أو قصصه تجاه حوادث ومحطات كثيرة، وأن الناس يصبحون أنفسهم حين يضمنون أنفسهم في قصة، وعليه فلو أنك لو طلبت من كل شخص أن يقول قصته مع الثورة، ستخرج بسرديات توضّح كيف أن الثورة كانت حدثاً حاسماً بحياتهم، وأنها أسهمت في تأسيس شخصياتهم، وبشكل جذري.
قبل فبراير، كان لدينا نظام يحتكر الفضاء العام وصُنع السياسات، تاركاً هامشاً ميتاً للنّخب السياسية التقليدية، ومحتفظاً بالدور المركزي في التحكّم بصناعة المصير، بل والتحكّم بالوعي العام.
لم يكن هناك من مساحة للشباب عدا عن حضور بعدد الأصابع لشخصيات ينتقيها النظام نفسه؛ كي تدور في فلكه كأدوات ضيئلة الأثر وعديمة الصلاحيات.
بعد فبراير، خرج للفضاء العام حشد كبير من الشباب المؤهّل، وأفصح عن وعي سياسي متقدّم وقدرة على المساهمة في النقاش العمومي وبكفاءة عالية، أين كان هؤلاء..؟ لا شك أنهم كانوا موجودين، لكن النظام كان يمارس سياسة تلغي الوجود الحيوي للأفراد الفاعلين، بل وتنتزع منهم أي حلم أو أمل بإمكانية أن يلعبوا دوراً في مستقبل بلادهم.
ولعلَّ من فضائل فبراير أنها أعادت تفعيل دور كتلة شبابية واسعة، ودفعتهم إلى التداخل مع الحياة العامة، والاقتراب الفاعل من الشأن السياسي، بل وفتحت فضاءً جديداً، تخلّقت بداخله عناصر كثيرة، ودخلوا بما يشبه مدرسة سياسية جديدة، وعهدا لا تحتكر فيه الأنظمة السياسة ولا تغيّب فيه هُوية الأفراد الجدد.
وبالنسبة للهُوية الجديدة هذه، فقد كانت الثورة بنقاشاتها العديدة -المتجاوزة للنّقاش السياسي نحو نقاش فكري كان حاضرا إبان الثورة- هي الإطار الذي منح هؤلاء الشباب القدرة على تعريف نفوسهم بشكل حيوي، ما كان له أن يحدث لولا الثورة.
وكما تقول عالمة النفس مونيشا باسوباثي، «الهوية ليست شيئاً يبنيه الناس ثم يمتلكونه، بل بالأحرى… هي مشكلة يجب حلّها بطريقة مستمرة طوال فترة حياة الإنسان».
إنها قصة، وقصة هُوية شباب الثورة، تمثل فبراير منطلقها والحدث المركزي الخلاق والمفجّر لها.
ما سبق يتأكد أكثر من وجهة نظر "الهُوية السردية" القائلة: "إن الروايات الشخصية عن الانتفاضات العربية ليست مجرد أفعال تذكُّر، بل أيضاً تعريفات حيوية للنّفس. ومن خلال رواية القصص تحديداً، سيجيب هؤلاء الأفراد بشكل فاعل ومستمر عن سؤال: «من أنا؟»، أي أنهم قبل الثورة كانت ذواتهم شبه منحجبة، وكانوا سيتفرّقون نحو دروب شتّى، وتتبدد طاقاتهم في أدوار هامشية تمنع أي جدوى عامة أن تتحقق للبلاد بكاملها، وقبل ذلك تمنع حتى الشباب من تحقيق ذواتهم واستكشاف هُوياتهم.
ما الذي علمتك إياه فبراير..؟ أظنّ أول صفة أسهمت فبراير بنسجها هي تفعيل قوة الرّفض، الإيمان بقدرة الذات على التدخل في صناعة المصير العام. لقد تمكّنت فبراير من معالجة عقود من السحق السياسي لنفوس الأجيال، وأعادت رفع مستوى اعتدادهم بذواتهم.
وهذه الصفة لم تتلاشَ بفعل تعثرات الثورة؛ بل ظلت صفة لصيقة بالشباب وعنصرا جوهريا في شخصياتهم، وتتجلى بسلوكهم العام في كافة مناحي وأنشطة حياتهم العامة والخاصة.
فبراير تمكّنت من تجذير ثقافة التعددية والإيمان بالآخر، والتسامح مع المختلف. قبل فبراير، كانت فكرة التعددية مجرد مفردة سياسية خاملة، يلوكها النظام لتجميل نفسه. جاءت فبراير وحولّتها إلى ثقافة سلوكية مختلطة بروح الإنسان، ومتجسّدة كقيمة عامة وفاعلة، فلن تجد شاباً من فبراير متعصباً ويرفض الآخر مهما اختلف معه، يتقبله بمرونة فائقة.
وهكذا ستكتشف قيمتين تتعايشان جنبا إلى جنب في شخصية الشاب، الذي شكلّت الثورة حدثاً فائقاً لديه، قيمة الرفض لكل ما هو مختل، والإيمان بالقدرة على تغييره، وقيمة القبول بالآخر إلى مستويات متقدّمة، والحفاظ على أرضية صلبة للنقاش معه دونما نفي ولا إزاحة أو كفر بحقّه في القول، بما في ذلك خصوم الثورة نفسها.
الخلاصة:
إذا ما كانت فبراير قد تعثّرت في فرض نظام سياسي يجسّد قيمها، وينطوي على مشروعها، فهي لم تفشل في تسريب قيمها نحو باطن المجتمع، والإسهام في إعادة تشكيل الذهنية اليمنية بصيغة متقدّمة تتجلّى فيها كل قِيم الحداثة والحياة المعاصِرة على أفضل صورة مُمكنة.
هذا الاشتغال الباطني للثورة ما يزال يحفر عميقاً في المجتمع، ويوماً ما سيقر الجميع أن حدث فبراير كان تدشيناً لحقبة تاريخية واجتماعية وقيمية مختلفة. وألاّ فرصة للنّجاة العامة سوى بالخضوع لها ومنظومتها القيمية، بشكل صريح أو ضمني، وفي كلتا الحالتين ستكون فبراير قد مثّلت إطاراً مرجعياً لما بعدها من زمن.