مقالات
أبشع مذابح العصر والقمة العربية الإسلامية في الرياض
كرد على حرب الإبادة الإسرائيلية ضد غزة، واحتشاد القوة الأمريكية: حاملتي الطائرات: فورد، وايزنهاور، وبوارج، وغواصة نووية معززة بقوة بريطانية وفرنسية وألمانية وإيطالية؛ حتى لكأن البشرية أمام حرب كونية ثالثة- تنعقد القمة العربية الإسلامية في الرياض.
خلال أسبوعين، ألقت إسرائيل أكثر من ثمانية وعشرين ألف طن من المتفجرات على غزة المجوعة والمحاصرة لستة عشر عامًا، والممنوع عنها في هذه الحرب الماء والغذاء والدواء والوقود.
كرد على حرب الإبادة في غزة، وحروب المستوطنين والجيش والأمن في الضفة الغربية، تنعقد القمة العربية الإسلامية، وتحضرها 57 دولة عربية وإسلامية، و37 زعيمًا. تُلقى الكثير من الخطب، ويصدر عن القمة بيان ختامي غاية في الأناقة والبلاغة، ويحظى بتوافق كل الزعماء عليه.
قمة القاهرة خرجت بدون بيان، ولم يحضرها كل المعنيين، أما قمة الرياض، فكان الحضور عربيًا وإسلاميًا، وكان البيان الختامي معلنًا ومنشورًا. يمكن تناول أهم ما ورد في هذا البيان الذي يركز في الفقرة الأولى منه على إدانة العدو الإسرائيلي في حربه على قطاع غزة، وجرائم الحرب والمجازر الهمجية الوحشية التي ترتكبها حكومة الاحتلال الاستعماري ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية المحتلة بما فيها القدس الشرقية، والمطالبة بوقف العدوان فوراً- حسب نص البيان.
رفض البيان توصيف الحرب الانتقامية بأنها دفاع عن النفس، أو تبريرها تحت أي ذريعة؛ داعيًا إلى كسر الحصار، وإدخال المساعدات بما فيها الوقود، والتشديد على مشاركة المنظمات الدولية، ودخولها إلى القطاع، وحماية طواقمها، وتمكنيها من القيام بدورها، ودعم وكالة الأمم المتحدة (الانروا).
دعم المؤتمرون ما تتخذه جمهورية مصر من خطوات لمواجهة تبعات العدوان؛ مطالبين مجلس الأمن باتخاذ قرار حاسم ملزم بفرض وقف العدوان.
كما طالب البيان بعدم تصدير الأسلحة والذخائر لسلطات الاحتلال، بالإضافة إلى مطالبة مجلس الأمن باتخاذ قرار فوري يدين تدمير قوات الاحتلال المستشفيات؛ معتبرًا قطع الكهرباء والماء والخدمات الأساسية عقابًا جماعيًا يمثل جريمة حرب وفق القانون الدولي، واعتبار التقاعس عن ذلك تواطؤًا دوليًا؛ مكررًا التأكيد على رفع الحصار، ومطالبًا الجنائية الدولية باستكمال التحقيق في جرائم الحرب وضد الإنسانية، ودعم المبادرات القانونية والسياسية لدولة فلسطين في تحميل إسرائيل مسئولية جرائمها، بما في ذلك الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، والسماح للجنة للتحقيق المنشأة بقرار مجلس حقوق الإنسان بالتحقيق في الجرائم، وعدم إعاقتها.
تكليف المملكة العربية السعودية كرئيسة للقمة، ووزراء الأردن ومصر وقطر وتركيا وأندنوسيا ونيجريا وفلسطين، وأي دول أخرى مهتمة، والأمين العام للمنظمتين- ببدء تحرك دولي باسم جميع الأعضاء لوقف الحرب، وتحقيق السلام وفق المرجعيات الدولية المعتمدة، وممارسة الضغوط لوقف جرائم للحرب، والتحذير من ازدواجية المعايير، وإدانة تهجير حوالي مليون ونصف فلسطيني من شمال غزة إلى جنوبها كجريمة.
ودان البيان قتل الصحفيين، والأطفال، والنساء، واستهداف المسعفين، واستخدام الفوسفور الأبيض؛ داعيًا إلى اتخاذ قرار جماعي بالإدانة، كما يدين التهديدات ضد لبنان، وإعادتها إلى العصر الحجري، ويطالب بعودة النازحين الفورية إلى منازلهم ومناطقهم. والسؤال الباكي: وأين منازلهم؟ فقد تم تدميرها، ولم تعد موجودة. ويشدد البيان على ضرورة الحؤول دون توسيع الصراع؛ مؤكدًا على خيار السلام؛ لإنهاء الاحتلال، وحل الصرع العربي الإسرائيلي، والتمسك بمبادرة السلام العربية، وعقد مؤتمر دولي للسلام وفق مبدأ (الأرض مقابل السلام).
ويأتي البيان على المطالبة بعودة الأرض الفلسطينية المحتلة في حرب 1967 بما فيها القدس الشرقية، والجولان، ومزارع شبعا، وكفر شوبا، وتنفيذ حل الدولتين، وحث البيان على تفعيل شبكة الأمان المالية العربية الإسلامية لدعم دولة فلسطين، ووكالة الانوروا، والتأكيد على إعادة إعمار غزة بحشد الشركاء الدوليين. وكلف البيان أمين عام الجامعة العربية، وأمين عام منظمة التعاون الإسلامي بمتابعة تنفيذ القرار، وعرض تقرير بشأنه على الدورة القادمة لمجلسيهما.
حرصتُ على سرد مقررات القمة: المطالب، والدعوات. و في البدء لا بد من الإشارة إلى حضور القضية الفلسطينية في كل المؤتمرات والقمم العربية منذ مؤتمر انشاص 1946، والذي دعا إليه الملك فاروق. بلغت القمم العربية ما يزيد عن أربعين قمة تتصدر فيها القضية الفلسطينية السطور الأولى، وتكاد المفردات والتعابير والتسميات مثل: قضية العرب الأولى، القضية المركزية- أن تكون واحدة، ولكن يظل الفعل غائبًا، أو منقوصًا أو شأئهًا، أو تأتي النتائج عكسية.
البيان مصاغ بدقة وذكاء. فقد لوحظ أن المطالبة بوقف الحرب لم يرد إلا مرة واحدة في وسط البيان. كما أن وصف الحرب بجريمة تكررت خمس مرات، بينما لفظ العدوان والاعتداءات ورد ست مرات، واستخدام العدوان بدلاً من إيقاف الحرب له دلالة ومعنى.
منذ بدء الحرب، وحتى اليوم، تقف أمريكا وإسرائيل ومعهما بعض دول أوروبا الاستعمارية وبريطانيا، ضد وقف الحرب، بينما تدعو مختلف أمم وشعوب العالم إلى وقف الحرب. وبعد أربعين يومًا من الحرب، وبسبب من العجز عن تحقيق الانتصار بفضل صمود المقاومة، والضغط الدولي، والمظاهرات العارمة، والاحتجاجات بما فيها الداخل الإسرائيلي، والبلدان الضالعة أو الوارطة والمساندة للحرب- بدأت أمريكا بالقبول بهدن تكتيكية ومؤقتة. فهل راعى البيان موقف إسرائيل وأمريكا؟ ربما.
الفرق بين العدوان والحرب كبير جدًا؛ فالعدوان قد يكون ماديًا، أو معنويًا. فما يمس الكرامة أو الحرية، أو حتى مجرد الاتصال المزعج أو المسيء يعتبر عدوانًا. فالحصار عدوان، وقطع الكهرباء، ومنع الماء والغذاء والدواء عدوان، بينما مطلب وقف الحرب هو القضية الأساس، والمطلب الأول.
ويبدو أن المؤتمرين راعوا حلفاء أمريكا وأصدقاء إسرائيل أكثر من أي شيء آخر. المطالب الأخرى، والدعوات لا خلاف عليها، غير أنها كلها بدون الفعل لا تعني الكثير، فهي مطروحة منذ انشاص وحتى اليوم. لم يقترب المؤتمرون، وبالأخص الداعين إليه، إلى مجرد التلويح بالمصالح، وما أكثرها، وهي الموقف الحقيقي الكفيل بردع أمريكا وأوروبا؛ وهو ما فعله الملك فيصل في حرب 1973.
تشخيص البيان للحرب كانتقامية، ورفض تبريرها بالدفاع عن النفس مهم. وفيما يتعلق بإدخال المساعدات، ألم يكن باستطاعة الدول العربية تحت مظلة الأمم المتحدة، والمنظمات الدولية المعنية، أن تتحرك بكسر الحصار، وإدخال المساعدات؟ ومن المعيب أن يعملوا ما عمله النظام الأردني في الاستئذان من المخابرات الإسرائيلية بإيصال الدواء لبعض المستشفيات.
أما مطلب عدم إرسال السلاح لإسرائيل من دول حاضرة في المنطقة بأساطيلها، وحاملات طائراتها، وبوارجها الحربية؛ فيما يعني التهيؤ لحرب عالمية، وهي مشاركة فعليًا في القيادة والاستخبارات- فمطلب لا معنى له. إدانة الحرب الإجرامية، والتدمير الشامل مهم. كذلكم رفع الحصار، وتوثيق الجرائم، والتحرك لوقف الحرب، ورفض التهجير، وعودة النازحين إلى منازلهم، وإدانة الاعتداءات ضد لبنان مهم أيضًا.
يتمسك البيان بخيار السلام، ومبادرة السلام العربية، ومبدأ (الأرض مقابل السلام). وحقًا، فإن ذلك لا يتحقق إلا بطرد السفراء الإسرائيليين، وإعادة النظر في اتفاقيات مدريد وأوسلو، والتطبيع، وإلزام السلطة الفلسطينية بالتخلي عن التنسيق الأمني مع إسرائيل، ووقف الهرولة للتطبيع- ذلكم هو التجسيد الحقيقي لخيار السلام. فما يجري يضع المنطقة كلها في سياق الاستسلام، وكأننا لسنا بصدد (السلام مقابل السلام)-المبدأ الإسرائيلي، وإنما الاستسلام للحرب، والرضوخ.
أما المساهمات المالية كدعوة البيان، فقد أوقفت البلدان العربية النفطية الدعم عن المنظمة تحت الضغط الأمريكي والأوروبي الذي أوقف هو الآخر الدعم تحت الضغط الأمريكي والإسرائيلي. ومعروف الفارق الكبير بين ما قدمته السعودية لأوكرانيا، وما تبرع به الملك السعودي وولي عهده لفلسطين.
لا يزري بالبيان، ويتعالى على بلاغته، ودقة صياغته، وارتفاع صوت الخطاب، إلا دوي قصف الطيران الإسرائيلي، ولا يعيبه وينتقص من قدره، إلا منظر الأطفال والخدج، والقتلى بالآلاف، وتهديم المساكن، وتشريد مئات الآلاف، واجتياح عاشر أو رابع جيش في العالم مدججًا بالمجنزرات والقصف الجوي مستشفى يؤوي آلاف القتلى والمرضى والنازحين
هذا قولكم، وهذا فعلهم؛ فأين القول من الفعل؟! السبعة والثلاثون زعيما عربيًا وإسلاميًا في القمة ليسوا معروفين بالرحمة بشعوبهم؛ فأن يتحلوا في أبشع مذبحة يشهدها العصر بالحلم، ويتحولوا إلى حمائم سلام، وتتقمصهم روح السيد المسيح القائل: "إذا لطمك أحد الأشقياء على خدك الأيمن؛ فأدر له خدك الأيسر". فتلك فعلة تزكي الحرب، وتطمن مجرميها.