مقالات
اتفاق الصين.. بين السعودية وإيران والسلام اليمني المنتظر
قبل الحديث عن حلول الذكرى الثامنة للتدخل العربي في اليمن، لربما يمكن القول عنها: أول حرب خارجية تخوضها السعودية في تاريخها الحديث كله. تحديدا بهذا المستوى الواسع والتدخل المباشر والطويل. والآن بعد ثماني سنوات من هبوب العاصفة العربية، السعودية/ الإماراتية، بشكل أدق. ماذا تبقى منها، وأين وصلت..؟
لربما يمكن القول إن اتفاق الصين بين السعودية وإيران، ذلك الاتفاق المفاجئ، باعتباره حدثا مركزيا لافتا، واقعة كبيرة بين كل الوقائع السياسية في المنطقة منذ سنوات. فإذا ما كانت عاصفة الحزم أهم حدث في الخليج منذ سنوات، أهم هنا من زاوية علاقة الحدث بالمصير اليمني، فإن اتفاق الصين بين السعودية وإيران هو أهم حدث منذ سنوات وربما عقود؛ ليس فيما يخص علاقته الواضحة بالشأن اليمني فحسب، بل وبشكل عام.
مبدئيا، من الطبيعي القول: إن الصراع السعودي - الإيراني هو صراع مبالغ به، وقبل ذلك صراع عبثي في جوهره. هل هناك صراع ليس عبثيا؛ أعني هل هناك صراع بشري مهم ومطلوب..؟ ليس هذا المقصود، فكل الصراعات تظل تعبيرا عن حماقات الإنسان؛ لكن الفارق هو أن هناك صراعات لها مبرراتها المنطقية الكافية، وبهذا يمكن تفهّم أسبابها واعتبارها جزءا من دراما الوجود البشري المنذور للصراع؛ الصراع النابع من طبيعته، والمتعذر انتزاع جذوره بشكل نهائي.
لكن فيما يخص الصراع السعودي - الإيراني فهو في جذوره صراع متضخم ومبرراته واهية، وأسبابه غريبة، وربما مفتعلة، وهناك إرادة خارجية تقف خلف استدامته أكثر من الأسباب الداخلية للبلدين. بل إن أسباب الصراع الواقعية بين السعودية وإيران تغذت وتضاعفت أثناء تواصل القطيعة بين البلدين؛ ما يعني أنها نتائج لاحقة لعداء انطلق وتصاعد من توجسات وهمية في جزء كبير منها. ماذا أقصد بحديثي هذا..؟
هناك فكرة أولية تنتمي للخيال السياسي الإيراني، متمثلة في تصدير الثورة الإيرانية، تبدو الفكرة في بدايتها كحلم ثوري رومانسي، وربما رغبة، بدت فكرة، ثم التقطت السعودية الفكرة، وتعاملت مع إيران انطلاقا من توجسها هذا. ونظرا للعلاقة الراسخة بين المملكة وأمريكا، تعززت قطيعة المملكة مع إيران. واستمرت الأخيرة في ترسيخ أحلامها الثورية، تمكنت من التغلغل في لبنان، واستحوذت على العراق، شكلت ما يسمى" فيلق القدس"، وتاجرت بالقضية الفلسطينية، ثم واصلت المغامرة نحو أرض جديدة، سوريا، وأنشأت لها تشكيلات مسلحة هنا. وأخيرا توّجت انتصاراتها المتوالية بمنصة جديدة، صنعاء، وقد صارت في قبضة الحوثي في مساء 21 سبتمبر الحزين 2014.
بتركيز أكبر، منذ قيام الثورة الإيرانية، 1979، لم تحدث القطيعة بين البلدين، إيران والسعودية، فور قيام الثورة، كانت العلاقة باردة، والطرفان في حالة توجس وترقب، وتحديدا السعودية، هذا المناخ المرتاب عزز خيالات إيران بالتمدد، لا أعني هنا أن السعودية كانت السبب؛ فالعكس هو الصحيح، أي أن العداء المتضخم، كان في جوهره يتخذ شكلا واقعيا من قِبل الطرف الإيراني، فيما الجانب السعودي كان يزداد توجسا وتتضخم مشاعر الخطر لديه، وتزداد الفجوة بينه وبين إيران كلما اقتربت منه. وتحديدا وقد صارت صواريخ الجيش اليمني الواقع تحت قبضة الحوثي تجري مناوراتها على حدود المملكة بعد أن سطى عليها الحوثيون، بإسقاطهم العاصمة.
نعود إلى الفكرة السابقة: حيث العداء والقطيعة بين البلدين، إيران والسعودية، هو صراع نبع بداية من رغبات خيالية وتوجسات ذهنية لدى الطرفين، ثم تطورت أسبابه الواقعية؛ غير أن الطرف الدولي، تحديدا أمريكا، كان اليد التي تغذي توجسات السعودية، وكان عداء إيران لأمريكا الدافع الذي غذّى رغبات إيران للدفع بالصراع، وتطوير أسبابه واقعيا، والتمدد وصولا لأذية الدول العربية، وأولهم دول الخليج.
كما لو أن إيران تود تحقيق هدفين معا: حلمها بالتغلغل في المنطقة، وتعزيز دورها المحوري فيها، ثم خنق الخليج ومشاغبة القوى الدولية، وفي مقدمتهم أمريكا، عبر اتخاذ منطقة الخليج مسرحا لهذه المشاغبات.
الآن، وقد مال الطرفان نحو تهدئة، لا يمكن القول عنها اتفاق مصالحة شامل، أعني بين السعودية وإيران. فأغلب الظن أنها تهدئة مؤقتة، قد تأخذ سنوات طويلة، وربما عقودا. لكن السؤال المهم هو: كيف يمكن أن تنعكس هذه المصالحة بين البلدين على السلام اليمني المرتقب؟
من الطبيعي التنبؤ أن إيران لن تتخلَّ عن مكاسبها في أي بلد عربي، وتحديدا مكسبها الأخير والأضخم، متمثلا في سطوة جماعة الحوثي على العاصمة صنعاء. قد تدفعهم إلى التهدئة والكمون وتقبل الدخول في مفاوضات مع بقية الأطراف اليمنية؛ لكنها بالطبع لن تتخلَّ عنهم، ولن يتخلوا هم عن مكاسبهم قط.
الخلاصة:
تلاقت رغبة إيران في التهدئة، والميل بنبرة خطابها نحو التصالح، مع رغبة السعودية بتهدئة مماثلة، وكل طرف لأسبابه الخاصة. يضاف إلى ذلك رغبة سعودية موازية بالبحث عن حل، أي حل ولو مرتجل وسريع للقضية اليمنية. لهذا نضجت بين الطرفين، السعودية وإيران، أسباب كافية لتجميد الصراع بينهما. وهو بالطبع تجميد مؤقت. فلا إيران ستتخلى عن كنوزها، ولا السعودية بمقدورها تحييد خطر إيران عبر الدبلوماسية والنوايا الحسنة، كما يقول مضمون تصريح وزير خارجيتها. إيران تناور ولديها نَفَس طويل، فبعد كل فترة مدّ وجموح وتصعيد، تميل إلى الخفض واللسن والجزْر. هكذا هي لعبتها المتكررة، لدرجة اعتبار هذا النهج خطا سياسيا متواترا، فيما لو سرد المرء كيفية إدارتها لسياستها الخارجية في المنطقة ومع العالم بشكل عام.
ويظل الأمر الحزين هو أن يصبح مصير شعب ودولة مثل اليمن رهينا برغبات وأمزجة دولة لديها طموحات أمبراطورية وثورية صادمة وجنونية؛ مثل إيران. وتجد لها جماعات محلية في بلدان عربية توفّر لها هذه الإمكانية للمناورة واللعب. ومثلما لم تتورع إيران عن القول وبوقاحة كاملة إن عاصمة عربية رابعة صارت في قبضتها، عشية سقوط صنعاء في يد جماعة الحوثي. لم يكن ناطق جماعة الحوثي أقل حياء حين صرح: إن الاتفاق السعودي - الإيراني يمكن أن يسهم في تهدئة المنطقة. يبدو تصريح عاديا ودبلوماسيا، لكنه لا يخلو من إيحاء ضمني أن جماعته تدور في فلك إيران. وهي حقيقة لا تحتاج إيحاء الرجل لتصير مؤكدة. فالحوثي جماعة تختطف مصير شعب، والشرعية اليمنية دولة تقف على أرض مهترئة. ومثلما سيتبع الحوثي ما توحي به له إيران ويناور مثلها، وربما يدخل في مفاوضات سلام، سفتعل الشرعية اليمنية مثله. سيذهبان إلى التفاوض، ولربما ينجزون سلاما هشا، هدنة طويلة ومؤقتة، تماما كما هو محتمل فيما يخص اتفاق الصين بين إيران والمملكة، وحين يتخلخل اتفاق الصين، محتمل -بل مؤكد- أن يتزعزع أي مصير يمني، أي سلام يتأسس الآن؛ كنتيجة عرضية لاتفاق الدولتين الكبيرتين في المنطقة، السعودية وإيران. هذه هي مأساة أي شعب يغدو مصيره مرتبا بأحلام وكوابيس رغبات وطموحات، مخاوف وتوجسات، دول عابرة لحدوده الوطنية. تلك هي اليمن ومأساتها الحزينة.