مقالات

اختطافات المليشيا المعلنة.. والتصفيات الداخلية غير المرئية

31/10/2025, 07:04:25

اختطاف موظفي المنظمات والوكالات الدولية بتهمة التجسس، يشي بحملة حوثية أوسع غير معلنة تستهدف داخل الجماعة أولئك الذين كُلّفوا بإدارة علاقتها بتلك المنظمات.

الاختطافات المعلنة تخفي في جوهرها عملية تطهير داخل الجماعة. الحوثية بنيتها مغلقة، سرية وسلالية، ترى في كل تواصل من داخلها مع أي جهة خارجها خرقًا يهدد تماسكها ووجودها.

تخشى من اكتساب عناصر محسوبة عليها لأي شكل من العلاقات والمعرفة التي تفتح منافذ على واقع لا تملك أدوات فهمه.

في كل مرة تواجه فيها شكوك ضد منظمات وجهات خارجية، تتحول الحوثية إلى داخلها لتبحث عن المسؤول عن تلك الثغرة التي يمكن أن تكشف هشاشتها المستورة وغير المرئية.

هذه البنية ليست خاصة بالحوثيين، إنها السمة المميزة لكل نظام فاشي شمولي حين يُختبر في لحظة تماس مع أي عالم خارجه.

 ستالين اعتقل من نفذوا أوامره السابقة في إدارة العلاقة مع مؤسسات الدولة والجيش، لأنهم عرفوا الدولة أكثر مما يسمح به خياله الأيديولوجي .

هتلر فعل الشيء نفسه في 1934، حين أعدم قادة كتيبة العاصفة الذين ساعدوه في الوصول إلى السلطة، لأن اعتقد أنهم صاروا يمتلكون نفوذًا لا يخضع لمركزه المطلق وعلاقات مع جهات خارجية كلفهم هتلر نفسه بها سابقاً.

الحوثية زرعت في أذهان عناصرها الخوف من كل شيء خارجها. الآن تحصد رعبها في الداخل وإزاء مراكز وقيادات تابعة لها أجرت اتصالات وعلاقات مع منظمات وجهات خارج الجماعة وبتكليف منها.

حين تتهم موظفين دوليين بالتجسس، فهي تمهد لمرحلة تحقق فيها مع من سمحت لهم من عناصرها بالعمل والتواصل مع المنظمات والجهات أصلًا. 

كل عنصر مسؤول يحاول أن يقوم بدوره داخلها وبتوجيه منها يصبح موضع شك، لأن أي مبادرة أو تواصل مع جهة خارج الجماعة يُفسَّر على أنه اختراق جديد. 

مع كل اتهام توجهه لعناصر فاعلة فيها، يتسع الشك داخلها، ويتحوّل التحقيق إلى وسيلة لإعادة تعريف الثقة داخل تنظيمها. 

 العمل الطبيعي في ادارة ملفات الجماعة مع أي جهات خارجها يتحول إلى خطر. التعامل مع الأمم المتحدة والمنظمات ومع السعودية ومع حركة حماس وحتى مع التنظيم الناصري وأحمد سيف حاشد في صنعاء يصبح تهمة مؤجلة.

الحوثية تدمّر قدرتها على العمل من داخلها من حيث تعتقد أنها سياسة حماية من الاختراق وتحصين لتماسك التنظيم. 

اعتقلت العديد من القادة والمنسقين الذين كانوا يديرون علاقتها مع المنظمات الدولية والوكالات الأممية. هنا لم تعتقل جواسيس بقدر ما اعتقلت الذين يعرفون كيف تتحرك دوائر عملها وكيف تُدار الملفات الإنسانية والسياسية والمالية.

هؤلاء كانوا يملكون الخبرة والعلاقات والمعرفة اليومية التي تساهم في تحقيق صلات للجماعة مع مع الجهات والمنظمات خارجها. بمجرد اختفائهم، ستحدث فراغات داخل دوائرها وأجهزتها الإدارية والفنية وحتى الأمنية.

ومع تراجع الأداء وتعطل الملفات الإنسانية، يزداد التذمر داخل قاعدة العصابة الحوثية.  الموظفون والمقاتلون يرون تأخر المساعدات وأزمة الجماعة المالية، لكنهم لا يستطيعون قول شيء ولا يمكنهم التعبير عن استيائهم، لأن الشك يطول الجميع. ومع ذلك، تصل إشارات الغضب إلى قيادة الحوثية، لكنها ستعتبرها علامة اختراق جديدة. فيتم الرد عليها بمزيد من الاعتقالات والاتهامات غير المعلنة داخلها.

 تدخل الحوثية في حلقة مغلقة. تعتقل من تكلفهم سابقا بالعمل مع المنظمات والوكالات الخارجية والأممية، فتفقد جزء من الخبرة ويتراجع الأداء، فتتهم جزء من عناصرها وقادتها بالخيانة، ثم تعتقل من العديد منهم.

هذه الدورة لا تتوقف، كونها أصبحت جزءًا من سياسة الجماعة نفسها. فكلما زاد الخوف، زاد شعور القيادة بأنها تسيطر. وكلما توسعت دائرة الشك داخلها، ازداد اقتناعها بأنها تحمي نفسها.

داخل الجماعة أصبح ساحة معركة. بدأت بحماية نفسها من الآخرين، ووجدت نفسها تحمي نفسها من نفسها.

بنية الحوثية تؤدي بالضرورة إلى تعزيز وتغذية انقسامات داخلية. تغيب الثقة داخل الجماعة، وتتشكل مجموعات وجماعات ومراكز مختلفة ومتعددة داخل التنظيم نفسه.  

 كل جماعة ومجموعة داخل الجماعة الحوثية تفسر "الاختراق" بطريقتها، فيتعمق الانقسام أكثر. تميل الكفة إلى الأجهزة الأمنية القمعية التي تتوسع سلطتها كلما ازداد الخوف والشك.

تخاف الحوثية من كشف الحقيقة التي تهدد أسطورتها التنظيمية وأواهامها الثورية. عنصر وقيادي مثل علي البخيتي، أصبح يشكل خطراً  حين امتلك قدر من المعرفة بها، رغم أنها كلفته ضمن مهام تواصل وتنسبق مع جهات خارجها. 

كان البخيتي أحد الذين أرسلتهم ذات يوم ليتحدثوا باسمها إلى العالم، ثم قررت لاحقًا أن وجوده نفسه أصبح تهديدًا. 

لم يفعل أكثر من أن عرفها. والذين يعرفونها يصيرون خطرًا على حياتهم، كونها تقوم على السرية المطلقة ولا تحتمل من يراها عارية.

هرب الرجل حين ادرك أن المعرفة بأكذوبة الجماعة وأسطورة تنظيمها تتحول إلى خطر ويصبح صاحبها هدفا مشروعاً لجماعته التي تحمي أسطورتها الكبرى بمحو من يعرف تفاصيلها.

هروبه من جماعته ليس بطولة. هو نوعٌ من الذكاء الغريزي والحس الحيواني، تمامًا كما يفر الحيوان من النار دون أن يحتاج إلى مبررات فلسفية.

لم يكن البخيتي استثناءً، انما المثال الناجي. يوجد أمثاله المئات من القادة داخل الجماعة. 

يتعرضوا لعمليات محو وعزل وإخفاء وتصفية سرية غير مرئية لمجرد أن اخلاصهم البليد جعلهم يحاولون خدمة الجماعة ببناء علاقات واتصالات مع جهات ومؤسسات وشخصيات ومنظمات خارجها. 

لم يتمكن هؤلاء من الهرب في اللحظات الأخيرة، كما فعل البخيتي، الناجي الوحيد. هو ليس أكثر شجاعة منهم، لكنه أكثر شكاً، وأكثر ذكاءً حيوانياً.

ربما مزيج الحماسة والبلادة والأوهام التي أضفتها الجماعة على شخصيتهم، أماتت قدرتهم على التفكير واستشعار الخطر. 

ينقصهم شيء بسيط من غريزة البخيتي وحسه الحيواني الذي يلتقط رائحة الخطر قبل أن يُكتب أسمه في الورق.

مقالات

أزمة الثقة في اليمن.. من انقسام الداخل إلى استغلال الخارج (1)

يواجه اليمن اليوم واحدة من أعقد أزماته التاريخية: أزمة الثقة المفقودة بين مكوناته الاجتماعية والسياسية. أزمة لم تولد من رحم الحرب الأخيرة فحسب، بل تمتد جذورها إلى قرون من الشك المتبادل والريبة المتوارثة، تلك التي حذّر منها أبو الأحرار الشهيد محمد محمود الزبيري قبل أكثر من ستة عقود، حين رأى أن داء الشك المستحكم بين القوى اليمنية أخطر على البلاد من الاستبداد نفسه.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.