مقالات
الإصلاح المحدود والثورات المعاقة
في مقابلة مع المفكر الفلسفي مراد وهبة، يذكر أن أستاذه، عثمان أمين، أشار إلى أن الشيخ محمد عبده أرسل رسالة لتولستوي يطلب التعاون معه في دعوة التجديد، مضيفًا أن تولستوي لم يرد على شيخ الأزهر، لكن مراد استبعد ألا يرد تولستوي على الشيخ محمد عبده.
وفي زيارةٍ له لموسكو، بحث مراد في «متحف تولستوي»؛ فوجد رسالة محمد عبده (الأصل)، ومسودة رد تولستوي عليه، وذكر نص رسالة محمد عبده، ورد تولستوي عليه بالفرنسية بحسب طلب محمد عبده في ذلك الوقت.
رحب تولستوي بدعوة محمد عبده؛ مؤكدًا على أهمية الإصلاح الديني، وسأله في النهاية سؤالين: من هو الباب؟ ومن هو بهاء الله؟ اختفت رسالة تولستوي نهائيًا بين كل ما كتب عن محمد عبده، ومن الأدبيات والوثائق المصرية.
ويضع مراد احتمالين: إما أن يكون تولستوي لا يعرف شيئًا عن البهائية، أو أنه يختبر موقف شيخ الأزهر في مساحة الإصلاح الديني لديه. ويؤكد مراد على الاحتمال الثاني؛ لأن تولستوي مغرم بالبهائية، وله كتاب مهم عنها، وأن الشيخ محمد عبده قد فجعه السؤالان؛ فإصلاح الشيخ لا يتجاوز الاجتهاد الديني، وهو محافظ أصلاً ومحاصر بتقليدية الأزهر وشيوخه المتزمتين.
هناك مصطلحان في الفقه الإسلامي، الأول هو: المجتهد داخل المذهب (المجتهد المقلد)؛ كاجتهاد النووي عند الشافعية، وابن القيم وابن رجب عند الحنابلة، أو الملا النراقي صاحب نظرية «ولاية الفقيه» عند الاثنا عشرية؛ أو مجتهد مطلق كمحمد حسين النائيني صاحب «تنزيه الملة وتنبيه الأمة»؛ وهو الداعي إلى ولاية الأمة بدلاً من ولاية الفقيه.
فالنراقي والخميني من أصحاب ولاية الفقيه؛ بينما النائيني ومحمود طلقاني وشريعة مداري ورضا صدر ومرتضى حائري وأخوه مهدي حائري يزدي وحسن طباطبائي ورضا موسوي ومجتهد زنجاني ومحمد حسين طباطبائي مجتهدون بالمطلق؛ أي غير مقيدين بأئمة المذهب باجتهاداتهم.
يُلاحظ في الفقه الإسلامي أن الغلبة والسيادة لدعاة التقليد والمحافظة؛ وفي أحسن الأحوال للاجتهاد المحدود والإصلاح المقيد. ففي السنة انتصر الغزالي وابن تيمية والنووي وابن الصلاح على ابن رشد والكندي والفارابي وابن سينا؛ وفي الاثنا عشرية انتصر الخميني صاحب «ولاية الفقيه» على النائيني داعي «ولاية الأمة»؛ ومعه أفضل علماء الشيعة، ومن أهمهم: محمود الطلقاني- القائد الميداني والفعلي للثورة في إيران.
وفي لبنان، ينتصر دعاة ولاية الفقيه على الإمام الجليل محمد مهدي شمس الدين الداعي -في وصاياه المهمة للشيعة- إلى الاندماج في مجتمعاتهم، وعدم التميز، والقبول بولاية المسيحي، وإلغاء الطائفية السياسية، وحمَّل المسؤولية المسلمين والعرب.
أليس لافتًا أن نشوان بن سعيد الحِميري، في القرن السادس، باليمن يدعو إلى رفض ولاية قريش؛ ومن باب أولى «ولاية البطنين»، كما يعتبر أو يشبه حصر الشيعة والسنة الولاية في قريش بحصر اليهود أمر النبوة في بني إسحاق، ويعتبر آل النبي هم أتباع ملته من كل الأجناس. لكن الإمام أحمد بن سليمان، الذي يُعتبر من أقل الأئمة الزيدية علمًا ومعرفة، ينتصر على أخيه من أمه؛ العلامة اللغوي المتكلم الأديب الشاعر المتعدد القدرات والمواهب، نشوان الحميري؛ ينتصر عليه لسبب واحد هو أن أباه هاشمي؛ بينما نشوان لا تنطبق عليه شروط الإمامة أو بالأحرى شرط البطنين، كما في الفقه الهادوي.
كما ينتصر الإمام عبد الله بن حمزة على فرقة المطرفية الأكثر علمًا وتفتحًا والتصاقًا بالناس منه. وينتصر عبد الصبور شاهين الأصولي المتشدد على حامد أبو زيد، ويفرق بينه وبين زوجه؛ وما أكثر انتصار التشدد وضيق الأفق في بيئتنا الشديدة التقليدية والتخلف حد الجمود والتمويت، وهيمنة كل ما هو سلفي؛ فالميت يمسك بتلابيب الحي، بحسب كارل ماركس.
في الحداثة والتجديد، نتحدث عن جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا كمجددين وإحيائيين؛ وهم كذلك، ولكنا لا نتحدث عن شبلي شميل ولا عن سلامة موسى وفرح أنطون والكواكبي وإلياس مرقص ولويس عوض وأحمد صادق سعد ومحمود أمين العالم وبندلي صليبا الجوزي وفيصل دراج وعبد الله العروي وعبد الرحمن منيف.
في السياق، ينتصر الخط الإصلاحي المحافظ على الأكثر استنارةً، وينتصر التقليدي شديد السلفية والمرجعية على الإصلاحي، ويسود الظلام والإظلام. في الماضي انتصر الفقيه المقلد أو حتى المطلق على الفلاسفة أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن الطفيل، ثم انتصر المجتهد المقلد على المجتهد المطلق كما حصل مع العلامة المجتهد ابن الوزير؛ فكان عصر الانحطاط. أما اليوم، فينتصر البنا وسيد قطب والمودودي وفتحي يكن وسعيد حوى والترابي على محمود محمد طه بالقتل، وينتصر الزنداني على أبي بكر السقاف.
في حياتنا العربية يتدحرج الخط الهابط -كما يحلو لرفعت السعيد تسميته- إلى الخط المتدهور إلى الانهيار، وما نعيشه اليوم في غير بلد هو الانحطاط والانهيار. ربما يكون الاستثناء الوحيد هو المغرب العربي، وبعض الدول الخليجية المحتفية بتحديث التعليم، ولديها مساحة لا بأس بها للحرية.
في نجد والحجاز، يتغلب محمد بن عبد الوهاب، في القرن السابع عشر، على والده وأخيه سليمان، وعلى الإسماعيلية في نجران اليمنية، ويهمين على متصوفة الحجاز والفقهاء التقليديين؛ وبفضل «البترو دولار» تنتشر الوهابية في غير قارة، وتصل إلى عقر دار الحامي الأمريكي وأوروبا الاستعمارية، ويتنشر التعصب والطائفية والكراهية والتكفير في عدد من بلدان العالم.
يعتقد ابن تيمية وأتباعه أن الشيعة أشد كفرًا وخطرًا من اليهودية والمسيحية والمجوس؛ وهو نفس اعتقاد الشيعة في السنة. ولا شك أن زعماء الطائفتين: الإسلام السياسي السني، والشيعي معادٍ للحريات العامة والديمقراطية، وحرية الرأي والتعبير؛ فالطائفية كما يرى المفكر وعالم الاجتماع علي الوردي لا علاقة لها بالدين. (انظر: وعاظ السلاطين).
ولي العهد محمد بن سلمان يرمي بضربة لازب بكبار دعاة الوهابية في السجون، ويحكم على بعضهم بالإعدام كسفر الحوالي وسلمان العودة وعوض القرني وعلي العمري، ويتعرضون لإجراءات شديدة القسوة والتعسف. الاستبداد السياسي يعصف بالاستبداد الديني الخادم المطيع له بحسب توصيف الكواكبي في «طبائع الاستبداد»؛ وهو الآن، وبحسب التوجه الجديد "الليبرالي" لولي العهد، يصطفي وجوهًا جديدة من نفس التيار يراها أكثر اعتدالاً وطواعية له.
الإصلاح الديني والتجديد والتحديث منقوص ومحدود وشائه؛ سواء في الثورة القومية، أو في إجراءات ابن سعود المتخذة طريقة «داوني بالتي كانت هي الداء». الأزهر في مصر، حتى بعد الثورة، ظل حضوره قويًا؛ خصوصًا في عهد "الرئيس المؤمن" في فرض الرقابة على الضمير والتفكير، وليس المطلوب الاقتداء بما حصل في أوروبا أو في أي مكان آخر في العالم؛ فالأهم عدم تدخل الدولة في معتقدات الناس وخياراتهم، وعدم وجود رقابة على اعتقادات الناس وضمائرهم، والابتعاد عن أدلجة الدين وتسييسه وتحويله إلى لعبة بيد الحكم؛ وأن يكون الدين لله والوطن للجميع.