مقالات
الحروب الصليبية ومآسي العرب (1-2)
مفردتا الحروب الصليبية - كمفردة الاستعمار - من المفردات الأكثر شيوعاً، وترديداً على الألسن العربية، وفيما نقرأ.
عندما أعدت قراءة رواية «الحروب الصليبية كما رآها العرب»، لأمين معلوف، ترجمة د. عفيف دمشقية ، شعرت بالفزع، والتعاسة لحالنا.
يرى هيجل أن التاريخ يعيد أو يكرر نفسه. وقد سبقه إلى هذا عشرات الفلاسفة والمفكرين، بينما يتخذ التكرار صورة المأساة والمهزلة عند كارل ماركسي في المرة الثانية.
تداولنا: «ما أشبه الليلة بالبارحة»، لا يعني واقعيتها. وما فات مات. فالأمس الذي يمضي لا يستطيع أهل الأرض جميعاً رده كحكمة أبي العلاء المعري.
لكني، وأنا أقرأ تفاصيل أحداث ووقائع حالة الأمة العربية نهايات القرن الحادي عشر الميلادي، والقرن الثاني عشر، ونهايات القرن الرابع، وبدايات الخامس الهجري؛ وصولاً إلى 691هـ/ 1291م، عندما يأخذ السلطان خليل بن قلاوون المبادرة منهياً قرنين من الوجود الفرنجي في الشرق، شعرت كأني أعيش في بداية الألفية الثالثة.
تتتبع الرواية التاريخية بدقة متناهية؛ أحداث ووقائع هذه الفترة الزمنية، فتصف ضعف الأمة، وسيطرة وصراعات السلاجقة والبويهيين على عاصمة الخلافة بغداد، وصراع السنة والشيعة بين بغداد ومصر، وحالة الضعف العام في المنطقة العربية كلها، بل وضعف فارس وتركيا أمام الغزو المغولي والفرنجي.
حالة الضعف العام كانت الإغراء أمام جحافل الحملات الصليبية على مدى أكثر من قرنين على الأمة العربية، وغزوات المغول والتتار 1253م، ومعركة «عين جالوت»، 25 رمضان 658 هـ/ 3 سبتمبر 1096م.
وقد ظلت محاولات التتار متكررة، ولكن معركة «عين جالوت»، بقيادة قطز، ونائبه بيبرس، كانت القاضية، لكن بعد أن سحق المغول للأسر الحاكمة التركية الخوارزمية التي حلت محل السلاجقة، وتمزَّقت أوصال الإمبراطورية الإسلامية.
الرواية مبحث مهم معزز بالمراجع، والمصادرة الموثَّقة والمعتمدة: العربية، والأجنبية بأسلوب ومنهج علمي.
ترتبط الرواية الإبداعية، والبحث التاريخي، بين توافق ظهور المغول في البلدان الإسلامية، والغزو المغولي في البلدان الإسلامية، والغزو الإفرنجي لمصر 1218 إلى 1221م.
ينقل عن ابن الأثير المعاصر للاجتياحات المغولية قوله: "فلو قال قائل: إن العالم لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً. ولعل الخلق لم يروا مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا".
وقد شهدت البشرية في الحروب الاستعمارية، والحربين الكونيتين، ما يزري بما فعله المغول والتتار، والصليبيون، وكل من سبقهم. (الكاتب).
وبنسب إلى جنكيز خان قوله: "ينبغي هدم جميع المدن؛ بحيث يصبح العالم بأسره سهباً شاسعاً ترضع فيه الأمهات أطفالاً أحراراً وسعداء".
توافق الاجتياحات المغولية مع الغزو الصليبي لا يُفسّر إلا بحالة الضعف، ووقوع المنطقة في مصر وبلاد الشام نهباً للتنافس الفارسي - التركي، الخلافة الإسلامية الخاضعة للسلاجقة والخوارزمية الأتراك في بغداد، وسيطرة الفاطميين الشيعة على مصر.
ولا يمكن تفسير التوافق، أو بالأحرى التسابق والتنافس إلا بحالة الضعف حد الانحطاط، والتفكك والتصارع. فالضعف في الجسد كالضعف في المجتمع كلاهما يغري. الأول يكون نهباً لانتشار الأدواء والعلل، والثاني بالغزو، أو ما يسميه المفكر الإسلامي مالك بن نبي قابلية الاستعمار؛ وهو ما يلاحظه السائح ابن جبير الذي زار المنطقة في تلكم الفترة، ولاحظ أثناء زيارته ومروره بالقرى اللبنانية، والعديد من سواحل الشام "أن السكان كلهم مسلمون، وهم مع الإفرنج على حالة ترفيه- نعوذ بالله من الفتنة! – ومساكنهم بأيديهم، وجميع أحوالهم متروكة لهم، وكل ما بأيدي الإفرنج في المدن ساحل الشام على هذه السبيل، وقد أشربت الفتنة قلوب أكثرهم؛ لما يبصرون عليه إخوانهم من أهل رساتيق المسلمين وعمالهم؛ لأنهم على ضد أحوالهم من الترفيه والرفق؛ وهذه من الفجائع الطارئة على المسلمين أن يشتكي الصنف الإسلامي جور صنعه المالك له، ويحمد سيرة ضده وعدوه المالك من الإفرنج، ويأنس بعدله".
ويعلق معلوف: "وابن جبير على حق في أن يقلق؛ فقد اكتشف حقيقة مثقلة بالنتائج؛ فحتى لو كان لمفهوم العدل عند الفرنج بعض المظاهر التي يمكن نعتها بـ«البربرية»، كما أشار أسامة - يقصد أسامة بن منقذ. (الكاتب)- فإن لمجتمعهم امتيازاً هو أنه يحسن توزيع الحقوق، ولم يكن مفهوم المواطن قد وجد بعد بالطبع، ولكن الإقطاعيين، والفرسان، ورجال الكهنوت والبرجوازيين، وحتى الفلاحين «الكفرة»، لهم جميعاً حقوق مشروعة وواضحة، أما في الشرق، فإن الإجراءات القضائية أكثر عقلانية، ومع ذلك، فليس هناك حد لسلطة الأمير الاعتباطية؛ وعليه فإنه لم يكن بالإمكان إلا أن يتأخر نمو المدن التجارية، وكذلك تطور الأفكار". اهـ.
يدرس السارد الباحث وضع الخلافة الإسلامية في بغداد، ووضع الخليفة الألعوبة، ويقرأ التوضيح الغريب الذي قدمه ابن الأثير عن أصل الغزو الفرنجي دلالة كبرى على الانقسام الداخلي الذي كان سائداً في العالم الإسلامي بين أهل السنة الموالين للخليفة العباسي في بغداد، والشيعة المنتمين إلى الخلافة الفاطمية في القاهرة، ويقود بهذا الانقسام إلى القرن السابع الميلادي.
يتناول رحلة الفقيه أبي سعد الهروي مع جماعة من أبناء الشام إلى بغداد بعد سقوط القدس، وأنطاكية، والرها بيد الفرنج في العام 1099م.
قاد الهروي رفاقه إلى الجامع الكبير في بغداد، وعندما اجتمع المصلون من كل صوب للصلاة، وكانوا في رمضان أخذ يأكل، واقترب الجند لاعتقاله؛ فأخذ يسألهم بهدوء: كيف يمكن أن يظهروا مثل هذا الاضطراب حيال إفطار رمضان، في حين لا مبالاة حيال ذبح آلاف المسلمين، وتدمير المقدسات الإسلامية، وأخذ يصف بالتفصيل مادهم بلاد الشام، ولا سيما القدس من مصائب. ويعلق ابن الأثير: "وبكوا- أي اللاجئين- وأبكوا".
يدرس الباحث الروائي الانقسامات داخل الأسر الحاكمة، وقتل الأخ أخاه، والتنافس على الولاء للأجنبي، وتقديم الجزية للاجنبي. فحلب ضد دمشق، ودمشق ضد طرابلس، وهكذا، والبلاد ممزقة الأوصال، وكل مدينة أو منطقة تمثل إمارة أو كياناً، وكل مدينة أمارة تسعى لتدمير أختها، والتآمر ضدها، وطوال الغزو الصليبي، والاجتياح المغولي، هنا في بلاد الشام وحدها أكثر من إمارة قد تصل إلى أربع.
الرواية - البحث - تتتبع مسار الغزو الصليبي والمغولي، وأساليب القمع والتنكيل؛ وصولاً إلى أكل لحوم البشر. ويوثق لهذا التوحش من المراجع الغربية المعتمدة، كما يدرس البواكير الأولى للمقاومة؛ ابتداءً من رجل الدين أبي سعد الهروي، ثم القاضي ابن الخشاب المقاوم بعمامة؛ كما يصفه معلوف، والخطيب المفوه.
- قصة المقاومة وما تعلمه الأوربيون من العرب
أمين معلوف الروائي والباحث يرى أن الحملات الصليبية كانت انعكاساتها سلبية على الوضع العربي من كل الجوانب، بينما أثرها العلمي، والثقافي، والسياسي، والاقتصادي كبير على أوروبا.
يرى أن أسباب انتصار الصليبيين والمغول على العرب أن شعب النبي قد فقد، منذ القرن التاسع، التحكم بمصيره؛ فمسؤولوه كانوا جميعاً من الغرباء: المؤرخون، والقضاة، وبعض الملوك المحليين الصغار لا حول لهم ولا قوة. القابضون حقيقة على أزمة الحكم، وحتى أبطال مجاهدة الفرنج الرئيسيون: زنكي، ونور الدين، وقطر وبيبرس، وقلاوون كانوا أتراكًا، والأفضل كان أرمنيًا، وشيركوه، وصلاح الدين، والعادل، والكامل كانوا أكراداً.
ويشير أن هؤلاء قد تعربوا ثقافيًا وعاطفياً. ويذكر في العام 1134 واقعة تحادث السلطان مسعود مع الخليفة المسترشد عبر ترجمان؛ لأنه لم يكن يجيد نطق كلمة عربية واحدة حتى بعد ثمانين عاماً من استيلاء عشيرته على بغداد.
ويرى أن عدداً لا يستهان به من محازبي السهوب، الذين لا تربطهم أية رابطة بالحضارة العربية أو المتوسطية، كانوا يندمجون في الطبقة العسكرية الحاكمة. وإذا كان العرب محكومين ومضطهدين ومهانين وغرباء في عقر دارهم؛ فإنهم لم يكونوا قادرين على إكمال تفتحهم الثقافي الذي بدأ في القرن السابع الميلادي.
ويرى أنه مع مجيء الصليبيين كان العرب يراوحون مكانهم، ويقتاتون من ماضيهم، ولكن لا يزالون متقدمين بشكل جلي على الغزاة في معظم الميادين، وإن كان أفول النجم قد بدأ.
كما يرى أن عاهة العرب الثانية مرتبطة بالأولى؛ وهي العجز عن بناء مؤسسات ثابتة؛ فكانت «الخلافة» في القدس تتم بشكل عام من غير صدامات. فكان مجلس المملكة يمارس رقابة فعلية على سياسة العاهل، وكان للكهنوت دور معترف به في لعبة الحكم، ولم يكن شيء من هذا في الدول الإسلامية؛ فكل نظام ملكي كان مهدداً عند موت الملك، وكل انتقال في الحكم كان يثير حربًا أهلية.
ويتساءل بارتياب: أينبغي إلقاء المسؤولية بكاملها في هذه الظاهرة على الاجتياحات المتلاحقة التي كانت تجدد باستمرار استدعاء وجود الدول بالذات؟ أم ينبغي إلقاء التبعة على الأصول البدوية للشعوب التي سيطرت على هذه المنطقة، سواء كانوا العرب، أم الأتراك، أم المغول؟
ويرى أنه لا يمكن الحسم مع هذه المسألة، ويرى أنها لا تزال مطروحة في نهايات القرن العشرين.