مقالات
الحوثي وحيدا
مهما تعرّضت فكرة الدولة وحاملها الوطني لخلخلة طوال السنوات الماضية، تظل إمكانية انتظامها واستعادة فاعليتها ممكنة، ذلك أننا أمام تشكيلات وطنية واسعة، وتمثل التيار الأساسي في المجتمع اليمني، وهو ما لا يمكن أن تتفوق عليه أي جماعة أخرى مهما بلغت من التماسك والقوة المنظّمة. أتحدث عن كتلة الشرعية مقابل الحوثي، ولا بد أن ذلك مفهوم قبل هذا التوضيح.
طوال السنوات الماضية، نشأ للحوثي وهمٌ أنه صار قوة ضاربة، وحاز درجة من الثبات تتجاوز ما لدى خصومه، ساعده في ذلك حالة البلبلة المتواصلة بين قوى الشرعية، هذا كلام معروف ومفهوم؛ لكن ما خُفي عن الحوثي هو أمر مهم ومركزي، تناسى عن عمد، أو قصد، الفارق البنيوي بينه وبين الطرف الآخر، متمثلًا في فكرة الدولة، وحاملها الأساسي في المجتمع.
بكل اختلالات الشرعية وتياراتها، ظلت الطرف الوحيد الحامل لتصور سياسي حديث عن الكيفية التي يجب أن يُنظّم بها المجتمع، فيما يظل الحوثي جماعة بلا تعريف سياسي ولا تصور مؤسسي مستدام لطريقة حكم الشعب، تمضي مُحكمة قبضتها على الناس؛ لكن كل الآفاق أمامها مغلقة، وليس بمقدورها أن تستحدث أي شكل ممنهج للحكم، باستثناء المضي للأمام فيما هي عليه من هيمنة واقعية وعملية للمجتمع، دونما إمكانية لمجانسة نموذجها مع أي تصور حديث للدول.
النقلة الأخيرة، التي حدثت لتيار الشرعية وتأسيسه لمظلة حكم جديدة، هو سلوك يؤكد إمكانية تجسيد الدولة لدى التيار الأساسي في المجتمع اليمني، وبما يعيد للحوثي تعريفه كجماعة انقلابية محشورة في زاوية ضيّقة، وعاجزة عن أي حراك سياسي بمفردها.
من الأقول المشاعة عن صالح الصماد -الرئيس السابق والمقتول- لما يسمى بالمجلس السياسي لأنصار الله، كان يقول لهم: "لماذا، وبعد سنوات من سيطرتنا، ما يزال الناس يقولون، الحوثي دخل تلك المنطقة"، يعني بذلك كلما سيطرت جماعته عن مكان معين، يردد الناس أن الحوثي سيطر.. لماذا لا يقولون الدولة جاءت أو سيطرت.
كان يعي أن الجماعة، ومهما أحكمت سطوتها وطال زمن بقائها، ما يزال الوعي الجمعي يمايزها، ويدرك بعفوية أنها جماعة محدودة، ولا تثمل الدولة.
هنا يتجسد الضعف البنيوي لجماعة الحوثي، وعجزها عن تأسيس تيار وطني عريض يجردها من صفتها الطائفية، ويوسّع إطارها المحدود، حتى فيما يخص شراكتها السابقة مع المؤتمر قبل قتلها لرئيس الحزب، أو حتى اللاحقة مع بقايا مؤتمر صنعاء، ظلت حالة هامشية غير قادرة على تخفيف الصبغة الطائفية للجماعة، أو منحها سمة عمومية.
أما فيما يخص الصورة الذهنية للحوثي، طوال السنوات الماضية، ونعني صورته الواقعية النابعة من تمكّنه في فرض سيطرته بإحكام على المناطق الواقعة تحت سلطته، فهي صورة لا تغطي الخلل الجذري في الجماعة، بل تثبتها. كما أن نجاحه في الحكم الذاتي، يعزز المشكلة، ولا ينبئ بإمكانية تجاوزها، والأهم من ذلك أن ليس في نجاحه ما يمنحه قابلية لتأسيس دولة بمعناها المعروف. ناهيك أنه لا يتمتع بأي رؤية أو إيمان بضرورة فعل ذلك، أو حتى محاولة صياغة حكمه وفقا لمفاهيم الدولة الحديثة.
نفهم ممّا سبق أن كل مزايا الحوثي، ونقاط قوته المؤقتة، هي صفات مكتسبة من خارجه وعرضة للخفوت، فيما كل عوامل القوة الممكنة للشرعية ذاتية، حتى حين ظلت خاملة طوال السنوات الماضية، وهو ما يجعل الحوثي عاجزا عن الاحتفاظ بعناصر القوة مقابل امكانية هائلة للشرعية أن تضاعف من قوتها، تثبت وجودها، وتستعيد دورها واقعيا كطرف وحيد وأساسي وممثل للمجتمع.
وعليه فليس هناك أي منفذ للحوثي للخلاص من مأزقه البنيوي سوى الانصواء تحت لافتة المظلة السياسية المشكلة من قِبل أطراف الشرعية، فتلك هي الطريقة الوحيدة لتثبيت وجوده، ومعالجة قصوره الذاتي، وعجزه عن تأسيس دولة في مناطق سيطرته.
قد يبدو هذا تكرارا عاما لفكرة نظرية يرفضها الحوثي، لكنه في الحقيقة شرط وجودي له، فما هو مؤكد هو أن ما كان متاحا له في الحرب أن يستمر عليه، لن يكون طبيعيا حالما استمر عليه، وقد وقفت الحرب.
فإما أن يواصل الحرب بلا غاية، وتلك حالة لن توصله إلى شيء، بل من المرجح أنها ستكون مدخلا لمزيد من خساراته، طالما خصومه صاروا أكثر توحّدا، أو يخضع للسلام ويرتضي بحصته كباقي القوى، دونما مغالاة وعناد عبثي.
هناك نقطة أخيرة: هو أن الحوثي كان بمقدوره انتزاع مكاسب أكبر من التفاوض، لو كان وافق عليه، قبل تشكيل المجلس الرئاسي الجديد للشرعية، وهو الآن يمكنه الحصول على مكاسب أقل من السابق؛ لكنها ستتضاءل أكثر فيما لو رفضها، وصولا للحظة ربما لن يكون بمقدوره الحفاظ على حياة قياداته، طالما استمر بعناده إلى النهاية.
أما فيما يخص طبيعة تعاطيه مع المبادرات السياسية للسلام، فالحوثي لا يكابر في موقفه كنوع من التصلب السياسي بحثا عن مزايا أكبر، بل يبدو الأمر أقرب إلى المغامرة بمصيره ومحاولته احتكار مصير شعب، وهذا سلوك لا يكشف رفضه للسلام فحسب؛ بل مصادمته لقوانين التاريخ والطبيعة والعقل، وتلك مكابرة خطيرة ولئيمة، ولا أظنها قابلة للديمومة، ولا تعبيرا عن ذكاء سياسي ودفاع عن قسط أكبر من المصلحة، بل مقدمة لنكسة وجودية، يكون الحوثي فيها عرضة لنقمة واسعة.
هذه ليست تنبؤات تتضمن حتميات غير قابلة للإسقاط على المجال السياسي، بل تلك قوانين أقرب إلى منطق الطبيعة، المنطق الكلي للحياة بكل تفاعلاتها.
فبعد أن أدت الحرب دورها، كنشاط طبيعي وممكن الحدوث في حياة كل الشعوب - مهما كانت شاذة في جوهرها-؛ لكن من يواصل فرضها قسرا ويريد استدامتها للنهاية، يكون كمن يناهض قوانين الحياة الكلية، ومصير كل من يكابر في كل القضايا الكبيرة، وبشكل اعتباطي لئيم، هو انتكاسة أقرب لحتمية، تلك نقمة الزمن والتاريخ، بشكل يتخطأ كل تنبؤات العقل وحساباته الواقعية المحدودة.
الخلاصة: لا يمكن لجماعة صغيرة أن تختطف حاضر ومستقبل مجتمع وتستديم ذلك للأبد، لا يحدث ذلك سوى مؤقتا، وما إن يمضي الزمن يتكشف الخلل الجذري والعجز البنيوي عن تعميم نموذجها أو تحويله لصيغة نهائية قابلة للديمومة في المستقبل.
هذه الفكرة البدهية لا يبدو أن الحوثي مستوعبا لها، فهو يمضي في سكرته دون أي خيال سياسي بما عليه فعله في الغد؛ متجاهلا حتى فكرة استحالة استمراره بهذا الشكل مهما راكم من قوة واستحكام للمجتمع.
وبهذه الحالة ما عليه إلا أن يؤسس دولة حقيقية، وهو أمر مستحيل بالنظر لبنية الجماعة الأحادي وطبيعة سياستها طوال السنوات الماضية، أو يخضع للسلام العادل، أو ينتظر نهاية قاسية. والأيام خير من ستنبئ عن ذلك.