مقالات
الحوثي يخطب في رمضان..
لا يكتفي عبدالملك الحوثي بظهوره المتكرر وفي مناسبات عديدة على مدار العام، ها هو ينتظر حتى رمضان، ويحتشد للخطابة كل ليلة؛ لكأنّ به عطش فائض للكلام، ولربّما أنه يشعر بالملل، ولطالما كان الملل دافعا خطيرا خلف أكبر حماقات المرء، ونافذة لانكشافه.
ليس هذا السلوك بذاته مما قد يُدان به المرء، فليواصل الرجل ثرثرته، فليس لشهوة الكلام -بحد ذاتها- حساب.
إنه يتحدّث كثيرا ولا يقول شيئا؛ لكنه يبدو واثقا بما لديه من كلام يراه مهما لهداية البشر، لا أظنّه يشك لحظة بفراغ ما يقوله من أي قيمة نافعة. ناهيك أن ينتابه إحساس كم هو مؤذٍ وفائض عن الحاجة.
يتمتع زعماء الجماعات الدّينية بشيء من القوّة الروحية، والصفات الشخصية الملهمة بين مجايليهم، حتى أولئك الذين يتزّعمون جماعات مارقة ومضادّة للحياة، لا تجدهم فارغين كهذا الصبي المجرد من أي شرارة حيّة أو سمة ملهمة.
مقارنة بعبدالملك الحوثي، ستجد أن أي رجل يتصدّر واجهة جماعة ما، لا بُد أنه صعد إلى مكانته تلك بجدارة شخصية لا تخلو من القيمة الفارقة، باستثناء عبدالملك، لا تدري أي مصادفة عبثية قادته إلى زعامة جماعته.
لا تفسير منطقي، سوى ما يكرره، ويجمع عليه حشد غفير من الخبراء، هو أن لا شيء معنوي منح هذا الرجل أهلية الزعامة باستثناء نطفته.
ليس مهما هنا صوابية ما يقوله الرجل أو انحرافه، فليكن فاسد الفكر بمعيار الحياة الحديثة، غير أني أبحث فيه عن هذه الزعامة الفاسدة، عن مؤهلات الزعامة بما هي كذلك، وليس عن مضمونها.
حتى الجماعات المجرمة، عصابات المافيا، لا يتصدّرها إلا مجرد ملهم. فالجريمة فعل استثنائي، مثله مثل البطولة، تحتاج شخصية بمواصفات نادرة.
أين هي تلك اللمسة الخاطفة في شخصية عبدالملك الحوثي. هذا الفتى الباهت والخجول، لا يكاد ينطق عبارة واحدة، تدفعك لاحترامه أو مهابته، حتى لو كنت تحتقره وتحقد عليه.
لا أظن هذا الشاب يتقن أي طقس تأمّلي، ولا يوجد ما يوحي أن عزلته في الجبل هي عزلة روحية يمكن أن تسهم في نموّه الداخلي، وتحرره من توتراته تجاه الحياة والناس، إنها عزلة ميكانيكية فارغة، اختلاء مجرم حسير، يخاف تحديق الناس في وجهه، ويخشى انكشافه أمام نظراتهم.
وللدقة، فهو رجل أقرب للمصابين بالتوحّد منه للمتصوّفة الذين يختارون عزلتهم بغرض تقوية عوالمهم الداخلية، ومراكمة ذخيرة روحية لمواجهة الحياة، وفك طلاسم الوجود.
يحتاج الرجل -أي رجل في الحياة (فلاح في أقاصي الريف أو قاتل في أعالي الجبال)، قدرا من المعرفة بداية حياته، ثم قدرا من التجربة الحياتية المباشرة، احتكاك بالنّاس وسماع لقصصهم، ثم يمكنه بعد عمر معين -يزيد أو ينقص قليلا- أن يقول خلاصات عن الحياة بلغته، وكما ترسخت داخله.
قبل هذا المشوار، يكون المرء أقرب لمخلوق أبله لم يكتمل نمو مداركه، ويكون الوجود في ذهنه أشبه بسديم غائم، لا يكاد يملك أي ذكرى حيّة أو خبرة مباشرة يقيس بها ما هو أمامه؛ كي يتقن التمييز بين الصواب والخطأ، وكذلك هو عبدالملك.
لا يعاني الرجل من فقر حاد في الشخصية وفراغ من أي صفة روحية عالية، بل يكاد يكون أقرب لمخلوق بدائي، هناك من ارتكب جرم بحقه وعزله عن الحياة، ثم قلّدة زعامة جماعة عمياء مثله.
لكم هو هذا السلوك جناية بحق الرجل، إجلال يوازي المهانة، ومصادفة ترقى لمستوى المصيبة.
ليست الكارثة في هذه الورطة فحسب، بل في عدم وجود أي إمكانية نفسية لدى الرجل لمساءلة نفسه، لا أهلية عقلية كافية؛ كي يعيد صياغة شخصيّته، لقد خُتِم الرجل بصبغة مغلقة وبات عليه أن يحتمل نحسه حتى النهاية.
ليس وحده من سيعاني آثار هذا الحظ السيِّئ، بل تفيض تلك العاهة وتلوث الفضاء العام كل ليلة، وأما في رمضان فتزداد اللوثة استفحالًا، ويا له من قدر بائس، لا ندري كم نحتاج من الزمن؛ كي نوقف إطلالته، ونحمي نفوسنا من تلك الثقالة والحضور الخانق.
أما هو فلا يوجد مثقال ذرة من أمل بمراجعة نفسه، والكف عن إيذاء البشر من حوله.. ما لم تحل علينا معجزة سماوية، أو يتسلل إليه مسدس بطل يشبه جواس، ويحرر الناس من لعنته.
الخلاصة: تحاول جماعة الحوثي أسطرة شاب اسمه عبدالملك، تحشد له كل أدوات الصيانة والتسويق، تصوغ له الخطب، وتعيد نشر عباراته في الشوارع والأسواق، وعلى كل نافذة إعلامية؛ لكنها لا تستطيع موارة هشاشته الذاتية، وتكوينه الخالي من أي ثقل حقيقي.
فلا هو فقيه ديني، ولا حكيم جيله، ولا تاريخ نضال يمده بالمهابة، ولا خبرة سياسية تغطي سذاجته، ولا صفات شخصية تضفي عليه شيئاً من النّباهة. ليس سوى شابٍ أقلّ من عادي، شاء القدر الأعمى والمصادفة العشوائية أن يكون من نسل رجل دِين، يُدعى بدر الدين الحوثي. وإذا به أمام منصب شاغر، رُتب له، ليس لكونه أكثر الأتباع كفاءة، بل أظن لكونه أقلّهم استقلالية نفسية، مأمون الجانب، ولا قدرة له على ابتكار نهج ذاتي، ولا يُخشى أن تربك زعامته المسار، أو يقول يوما لمن يوجهه: لا، ولا حتى يقدم مقترحا، أو يستبدل جملة فيما يعرض عليه أو يفرض.
ويا لها من مسخرة لا أظنّها قابلة للحياة ما دامت تُقاد برجل بمثل هذه البلاهة.