مقالات
الشرك الظلم
يُسمِّي القرآن الكريم الشركَ ظلمًا: [إن الشرك لظلم عظيم]، [لقمان: 13].
ووَصفُ الشرك بالظلم دلالته خطيرة. يقينًا، فإن الظلم في الحياة هو الكفر الحقيقي. الشرك ظلم في حق الله، أما الظلم، فإضرار بالناس، وكفر في حق الله.
فحق الله مبني على المسامحة، وحق الناس مبني على المشاححة (المطالبة).
اليمن المفكك والمجزأ والمتحارب، أو المنتظر للحرب، لا يقدر على مواجهة الكوارث.
فاليمن المحاصر دوليًّا، وعلى مدى عشرة أعوام، برًا، وبحرًا، وجوًا- يحاصره حكامُهُ أيضًا.
الشعب الجائع والمُجَوَّع بنهب ثرواته، وتعطيله عن الأعمال، وقطع مرتباته، والتلاعب بالمساعدات التي يستحقها، ومصادرة الممتلكات، وتفشي الفساد والظلم- يتعرض حاليًّا لكوارث الأمطار والسيول.
الأمطار والسيول، التي بنى بها الآباء حضارات: سبأ، ومعين، وقتبان، وأوسان، وحضرموت، وحِمير، أصبحت -بسبب طغيان الحكم، وفداحة مظالمه- عوامل خراب وشقاء.
الأمطار والسيول، التي سيطر عليها الآباء ببناء المدرجات، والسدود، ونظم الري الذكية أصبحت مصدر هلاك الإنسان، ونفوق الحيوان، وتهديم المدن والقرى.
تعم الكارثة الأرض اليمنية كلها، وتقف سلطات الأمر الواقع موقف المتفرج في أحسن الأحوال، أو موقف السعي للإفادة من الكارثة.
كتب الأستاذ مطهر تقي -الصحفي والإعلامي البارز- مقالةً مهمة ينبّه فيها إلى أهمية إعطاء الأولوية لكوارث السيول، وتقديم العون للمنكوبين في العديد من المناطق اليمنية، وبالأخص في تهامة، وتمنّى لو أن الاجتماع الموسّع الذي انعقد عقب تشكيل حكومة البناء والتغيير، ناقش أعضاؤه الوضع الخطير للمدن التاريخية والمناطق المتضررة من فيضانات السيول، التي قد ينتظرها ما هو أخطر، وتناول بالتفصيل كوارث السيول التي شرَّدت مئات الآلاف، وعاب عليهم -محقًا- جمع الملايين من الريالات للاحتفال بالمولد النبوي في بلد تدمّره السيول والأمطار.
الاحتفاء بمولد الرسول الكريم مُهم، وهو تقليد شعبي يحتفي به العديد من مناطق اليمن تقليدًا متوارثًا لمئات السنين؛ شأن مصر والسودان والمغرب، والعديد من البلدان العربية والإسلامية.
كان الاحتفاء شعيرةً روحيةً شعبية تحيا بالصوم، واجتماع النساء في المنازل، والرجال في المساجد لتلاوة القرآن الكريم، وقصة المولد النبوي، وتقام فيه الولائم، وتترك السلطة للمواطنين حرية التعبير عن حبهم لهذه المناسبة، وبالطرق التي ألِفُوها دون تدخل منها بفرض الإتاوات، والإرغام على فرض الزينة في الشوارع، والتكليف بما لا يُطاق.
المناسبة الروحية العظيمة مصدر الفرح والحب تحوّلت بالفرض والإكراه إلى مصدر تبرم وضيق شأن السيول والأمطار التي هي مصدر الخصب والنماء والازدهار والحياة، صارت مصدر خراب وإهلاك وتدمير؛ فأيهما الأكثر خطرًا، والأشد ضررًا؟!
من الواضح أن كوارث السيول في اليمن كلها تفوق طاقة اليمنيين على احتمالها؛ ففي مأرب تورد الأنباء تشريد الأمطار والسيول 8400 أسرة من النازحين من الحرب، و8000 ألف لا يجدون مأوى لهم، وستة آلاف وسبعمئة منزل تم تدميره.
انهارت الشوارع، وجرفت السيول المنازل، وأتت على المواشي، وطالت الكارثة المحويت، فاختفت العديد من المنازل، وجرفت السيول كل ما تجده في طريقها من بشر وحجر ودواب، وقتل أكثر من خمسين شخصًا، وانهارت الصخور في الجبال.
في تهامة، حيث أكبر وديان اليمن، كانت الكارثة أكبر وأشمل وأوسع؛ فتهامة -كل تهامة- من المخا، وزبيد، وحتى حجة جرفت السيول الكثير من القرى والمواشي والناس، وشملت الكارثة مدينة زبيد التاريخية، ومدينة الحديدة، ومدينة الضحي الواقعة شمال الحديدة تحاصرها السيول، وجرفت عشرات القرى في زبيد، ووادي سهام، وجاحف، وسردد، ومور، وتتهدد السيول الآن مدينة الحديدة التي وصل إليها السيل إلى حي مدينة العمال.
يتجاوز القتلى حتى الآن أكثر من مئة خلال شهري يوليو وأغسطس، والمتضررون أكثر من ثلاثمئة ألف شخص، وحسب بيانات الأمم المتحدة هناك 60 ألف شخص -على أقل تقدير- بدون مأوى، وقد يكون العدد أكثر من ذلك بكثير.
المأساة أن سلطات الأمر الواقع في الشمال والجنوب غارقة في صراعاتها العبثية على النهب، والفيد، والتسلط، وعدم الاهتمام بالكوارث الحالية والمحدقة باليمن، فقد عمت الكوارث صنعاء، والحديدة، وتعز، وريمة، والمحويت، ومأرب، وحجة، والعديد من مناطق اليمن.
محزن جدًا أن تكون الأمطار والسيول مصدر بناء الحضارة اليمنية، وأرض الجنتين، سببًا للكوارث والشقاء في القرن الواحد والعشرين، ولا تهتم سلطات الأمر الواقع بحال المواطنين ومآسي الشعب.
قبل بدء نازلة السيول والأمطار، قام أنصار الله الحوثيين باختطافات واعتقالات واسعة وإخفاء قسري للعديد من العاملين والعاملات في مؤسسات مجتمع مدني ومنظمات أممية وموظفي سفارات وموظفي الأمم المتحدة، وقامت بتوجيه تهم الخيانة العظمى، والاتهام بالتجسس، والتشهير بهم بعد انتزاع اعترافات منهم كتقليد متوارث من أنظمة الطغيان في اليمن والمنطقة العربية، والمأساة أن يُعامل هؤلاء الموظفون والموظفات كرهائن، وكأنهم مواطنو دول معادية.
كارثة السيول والأمطار، التي عمت اليمن، تحتاج إلى توحد الإرادة الوطنية اليمنية، وإلى العون الدولي؛ فالكارثة تفوق قدرة شعب مفكك تمزقه الصراعات، ويتم حصاره داخليًّا وخارجيًّا، كما لا يُنتظر العون من جهات تقوم سلطات الأمر الواقع باعتقال موظفيها، وهم يعرفون بطلان التهم كما يعرفها الشعب اليمني.
وكأنَّ اليمن لا تكفيها مآسي الحروب العدوانية والأهلية والمجاعة المتجاوزة حدود الـ80%، وكوارث الأمطار والسيول؛ لتنتشر إضافة إلى ذلك الأوبئة الفتاكة، وبالأخص الكوليرا؛ فوكالات الأنباء تتحدث عن مئة وستين حالة مكتشفة حاليًّا، فكيف الحال غدًا في ظل يمن مفكك ومتصارع ومحروم من أبسط حقوق المواطنة والحرية والعيش الكريم.