مقالات
العزل التدريجي لحزب الإصلاح من السلطة
حين يتصلب الإصلاح وحين يتنازل، وهو قريب من مراكز القرار العليا أو رابض في الدرجة الثانية والثالثة من مستويات السلطة، في كل حالاته يظل متهمًا طوال الخط، حتى أنك تكاد تنسى وجه الجريمة التي ارتكبها في نظر خصومه. هذا الموقف المغلق تجاه الحزب من قبل مناوئيه، هو أحد اعتلالات الحياة السياسية اليمنية وانعكاس مرضي لمرحلة مليئة بالمواقف الاعتباطية والاستعداد الثابت للعدوات المجانية تجاه كل من يتمتع بحضور وفاعلية في الفضاء العمومي اليمني.
طوال سبع سنوات من الحرب، ظلت التهمة الموجهة للحزب، هو هيمنته على مؤسسة الرئاسة وتحكمه بقرارات الرئيس، لم تكن التهمة باطلة تمامًا ؛ لكنها بالمقابل لم تكن منضبطة بحجم نفوذه الفعلي، كان يتمتع بقرب جيد من الرئاسة بحكم فاعليته وجاهزيته منذ البداية لاسناد الرئيس، لجانب صلابة موقفه المنحاز بشكل واضح وقاطع للمشروعية السياسية وتسخير كل قواه لخدمتها.
غير أن فاعليته هذه، تحولت لتغدو مصدر حصار له من خصومه وغدت تهمة النفوذ في الرئاسة نقطة ضعفه. وهكذا لاحظنا كيف تعرص الحزب لسنوات من الابتزاز، بسبب حيويته وليس العكس. مضت السنوات والحزب مكبل بفعل حركيته الجيدة، وجرت مياه كثيرة في سواقي متعددة، خارج نطاق الشرعية. كان الجميع يزعم اعترافه بالشرعية؛ لكنه يستنكف عن الولاء العملي لها. ذلك أنهم لا يعترفون بالشرعية كما هي عليه، بل يريدونها أن تكون كما يرغبون، وهذا اختلال مركزي يضرب مفهوم الشرعية من أساسه؛، بل ويتنافى مع مفهومها الأساسي، كممثلة لسيادة القرار، يتوجب الاذعان لها ولو لم توافق على كل قرارتها.
انقضى الفصل السابق من اللعبة، وتقبل الإصلاح إعادة هيكلة الرئاسة بل وتبديل واجهتها كليًّا، وصحونا على مجلس رئاسي يفترض أن يكون بداية مرحلة جديدة، تتوقف فيها شكاوى الهيمنة ويغدو الجميع بما فيهم الإصلاح شركاء قرار متوازن. والحال هذا يفترض بخصوم الحزب أن يتجاوزا دوافعهم في التربص بالحزب وتحميله كل شاردة وواردة، غير أن هذا لم ينته وانتقلوا نحو مرحلة جديدة تتحرك بنفس الدوافع؛ لكنها هذه المرة لا تشكو من نفوذ الحزب؛، بل تود تجريده من كل حقوقه في الحضور واضعاف كل قواه، وربما كل ذلك تمهيدا لعزله التدريجي من المشاركة في القرار ومفاصل السلطة.
اتضح الآن أنهم لم يكونوا ينادون بتقاسم القرار الرئاسي مع الحزب_ مع كونه عمليًا لم يكن مستحوذ عليه تمامًا_بل تجريده من أدوات قوته كليًّا. باسم المشروعية هذه المرة، يريدون مصادرة الحق الطبيعي للحزب في التواجد داخل دوائر القرار وربما نزع مشروعيته لاحقًا. والبداية من نزع الصفة الوطنية والقانونية عن كل مسؤول سياسي أو عسكري قريب من الحزب.
هذا النزوع الجامح لا يكشف عن خصوم عقلاء، يقرأون موازين القوى الواقعية ويتحركون بمحاذاتها، بل يؤكد وجود دوافع صميمية وعمياء ويصح وصفها بالغطرسة المتبلدة، تحاول القفز على حقائق الواقع وتشكيله بطريقة اعتباطية لا تكترث لحق الأخر بالتواجد وفقًا لحجمه ووزنه وفاعليته.
تتجلى النزعات الاقصائية هذه، والحزب ما يزال يتمتع بقوة وتشبيك متعدد في الواقع وقادر على التدافع وحماية حقه الطبيعي في الحضور، فماذا لو كان بالفعل مكشوفًا وقابل للافتراس، بهذه الحالة ربما لن يمهله خصومه ليلة واحدة، وسنصحو والمجاميع المسلحة تلاحق قياداته وتجردها ليس من حقها في الحضور السياسي، بل ربما تتعداه، لنفي حقهم في الوجود.
لنعد للفكرة السابقة. من البدهي القول أن سلطة المجلس الرئاسي توافقية، وأن الدولة اليمنية بكاملها في مرحلة تكوَّن جنيني، ما يعني أن سياسة بنائها يتوجب أن تراعي مفاصل القوى الحية في المجتمع وتمثلاتها السياسية، وعليه لا يوجد سلطة تأسيسية تفكر بشكل عقلاني وعملي، يمكنها الموافقة على تحييد حزب بهذا الحضور والتكتل والجاهزية للفعل في كل لحظة وبكل اتجاه.
ولو اتبعت سلطة ما هذا النهج، أو حتى أذعنت لرغبات فصيل داخلها أو موجه خارجها وحققت له أغراضه بإزاحة قوة سياسية ومجتمعية من مفاصل السلطة، فهي بذلك لا تسهم في تثبيت نفسها؛ بل تؤثر على الهدف الكلي العام متمثلا في مساعي تأسيس الدولة عبر الترتيب المختل لوضع القوى في السلطة. بوضوح أكبر، مسايرة المجلس الرئاسي لرغبات الإنتقالي والإمارات وتمكينهم من المفاصل الحساسة في الدولة مقابل غمط حق الإصلاح في الحضور، هو ترتيب مختل للقوى السياسية ومستويات حضورها. هل يعقل أن يكون تشكيل فوقي مسلح مثل الإنتقالي أكثر حظوة من حزب بحجم الإصلاح وتذهب أغلب القرارات لصالحه.
وكي لا يكون الكلام عمومي، يمكننا تتبع دعوات تغيير كل شخصية تنتمي للإصلاح أو حتى قريبة منه بل وتلك التي لها توجه سياسي مختلف لكنها تحظى بدعم الحزب لكونها تنتهج خط وطني عام في مواقفها. كل هؤلاء مهددون بالازاحة وأهداف قادمة، لمجرد وجود رائحة تناغم بين مسلكهم السياسي ومواقف الإصلاح. وما #لكعب( قائد قوات الأمن الخاصة في شبوة) ومطالب تغييره سوى نموذج جزئي صغير بهذا الاتجاه.
الأمر لا يتعلق هنا بالدفاع عن حصة الحزب من السلطة، فالواقع يقول أننا في مرحلة تكاد تكون فيها المناصب مكاسب فارغة؛ لكن الخطير في الأمر هنا هو في تهشيم المهشم أصلا. أي أن اتخاذ القرارات وفقًا المعايير مقلوبة، سلوك يمعن في إضعاف الدولة أكثر، وتمكين فصيل ذو ثقل سياسي وإجتماعي هش كالإنتقالي من مفاصل حساسة في الدولة ينعكس مباشرة؛ ليسهم في مزيد من هشاشة الدولة المرجوّة.
فلا يمكن لفصيل حديث العهد بالسياسة، وضعيف في بنيته الإدارية_لجانب افتقاره لمنطق سياسي عام قادر على توفير مظلة جامعة في توجهه_ فصيل كهذا، كل مزاياه، هو امتلاكه لقوة مسلحة ومجردة من أي امتدادات أو عناصر قوة موازية، لا تجعل منه كتلة سياسية جديرة بأن تكون العمود الفقري للدولة، أو حتى خزّانًا بشريّا كافيًا وجاهزا أو صالحًا للتحكم بدولة كاملة. كما لا يمكن أن تفضي سياسة مراضاته لنتيجة سليمة، كأن ننتظر بالفعل ميلاد دولة حقيقية لكل الناس، فيما أغلب مناصبها تحت سطوته.
الخلاصة: يحاول الإنتقالي استثمار نتائج سيطرته العسكرية والأمنية على العاصمة عدن؛ كي يضغط باتجاه تمكينه سياسيًا وازاحة خصومة. يستخدم نفس التهمة التي كان خصوم الإصلاح بما فيهم هو، يصرخون بها ضد الحزب. مع فارق أن الإصلاح وفي مرحلة نفوذه في الرئاسة. كان يتحرك بحذر ويحاول جاهدا موازنة سياسته، ولم يتهور ليستحوذ فعليًا على كل شيء. كان يتصرف مستندا لخبرة سياسية تراكمية تدرك جيدا مآلات النزوع الاقصائي. فيما نحن اليوم أمام فصيل يتصرف بخفة ويعتقد أن امتلاكه بضع آلاف من مسلحين يديرون العاصمة عدن وما حولها وأن هذا الامتياز يخوله لابتلاع كل شيء.
وأداته الوحيدة لتحقيق ذلك_كما أسلفنا_ هي هيمنته المسلحة فحسب. غير أن امتلاك القوة وحده، لا يمنحك ورقة مكتملة للاستحواذ على كل شيء. مثلما أن الإصلاح لن يغدو حزبًا ملغي الوجود والقوة، لمجرد إزاحته من المناصب. لا يمكن لقرارات علوية تفتقد لعنصر التطابق مع قوى المجتمع أن تحيد وجود هذه القوى. صحيح هي تحاصر حضورها على مستوى القرار وامتلاك القدرة على رسم السياسات؛ لكنها بذلك تنجز دولة مفككة، وتحرم المجتمع من عوائد قواه الطبيعية والحية. أنتم لا تضعفون الإصلاح، بل تدمرون المجتمع، تضللون أنفسكم في حديثكم عن رغبتكم في بناء دولة، فيما كل تحركاتكم تقول إنكم غير مؤتمنين على إدارتها، وكل المساعي تؤشر لمصير غير مأمول وغير مضمون ما دمتم تتحركون بدوافع متربصة ولا تكادون تنظرون أبعد من أنوفكم المتعطشة للسلطة والاحتراب.