مقالات
العيد كصورة بلا روح
لم تكن البشرية بحاجة إلى العيد، فالفرح لا يُختزل في طقس، ولا تُولد البهجة من إعلان مؤقت، ولا يُستدعى الابتهاج بأمر إداري، ذلك أن الفرح في جوهره ليس احتفالًا، بل انبثاق. يمكنك أن تفتعل لحظة من اللاشيء، أن تمارس الشغب، أن تعلو قهقهتك في وجه الزمن لتوقظ كل النائمين، حتى أولئك الراقدين في مضاجعهم، يستيقظون حين يسمعونك تصرخ يا للفرح..! لأنك هنا كسرت الالتزام بالزمن. لم تنتظر، ابتكرت. ولأنك لم تعترف للزمن بحق تنظيم بهجتك.
العيد الذي تكرّس له الشعوب طاقتها، وتُستنزف فيه الأرواح ما بين سهرٍ وتعبٍ وانتظار، ليس إلا وهماً جماعيًا مُنسّقًا بعناية، وهمًا يُعاش كما تُمارس الطقوس الميتة؛ نمطٌ يُكرر لا لأنه جميل، بل لأنه موروث، ومألوف.
يأتي العيد ويغيب، ويترك خلفه جسدًا منهكًا لم يعرف البهجة وإنما ارتدى قناعها، وأعاد تمثيلها دون أن يشعر بها. يغدو النوم هو الفعل الأكثر صدقًا في يوم العيد، حين تنكشف الهوة بين ما يُقال وما يُعاش، بين ما نحتفل به وما نشعر به حقًا.
ذلك أن الفرح الحقيقي لا يُولد من فعل جماعي مقنن، بل ينبع من صدع داخلي، من لحظة تتجاوز الزمن الكرونولوجي المعتاد لتلج في الزمن الكاياروسي، الزمن النوعي، الخارج عن النسق، الزمن الذي يُقاس بالدهشة. إذ أن الإنسان، وقد استُلبت قدرته على توليد المعنى من ذاته، راح يعوّل على لحظات مستعارة، يُحاكي فيها الفرح كما يُقلّد القوالب المعدّة سلفًا، متوهّمًا أن البهجة قابلة للبرمجة، بينما هو في العمق يعيد إنتاج اغترابه.
إن العيد لا يُعاش كضرورة وجودية؛ بل يُمارس كفعل رمزي، كقناع ثقافي تمليه الجماعة وتراقب تنفيذه. وهنا، يتحوّل الفرح إلى التزام، وتصبح البهجة واجبًا أخلاقيًا، يُفرَض على الذات كما تُفرض القوانين، ويتحوّل الانفعال إلى مظهر خارجي لا يعكس الداخل بل يخفيه.
ومن هذا الباب، فإن العيد ليس احتفالًا بل تمرينًا جماعيًا على النسيان، على الصمت الداخلي، على محو السؤال واستبداله بإيقاع مألوف، فيغدو الطقس وسيلة الجماعة للسيطرة على الشعور.
هكذا تحدث دوركايم عن الطقس كأداة ضبط، لا كمساحة تحرر، وهكذا فهم كيركغارد التكرار لا كراحة بل كقلق، إذ إن ما يُعاد يصبح مفروضًا، وما يُنتظر يُفرغ من عفويته. الفرح الذي لا ينبثق، بل يُنتَظر، هو فرح مؤجل دومًا، لا لأنه لا يأتي، بل لأنه لا يستطيع أن يهبط على ذات فقدت دفقها الداخلي. وحين يتحوّل العيد إلى محطة إنتاج للفرح، فإنه يُفرغ من لحظته الوجودية، ويتحوّل إلى مناسبة استهلاكية، إلى سلعة رمزية تُمارَس، وتُبتلع، وتُنسى.
هكذا، تصير الذات رهينة التوقيت، ويُختزل الانفعال إلى دور يُؤدى، ويتحول الفرح إلى صورة تروّج، لا إلى شعور يُعاش. وفي هذا السياق، يُصبح العيد استمرارًا لنظام التمثيل الذي وصفه بودريار، حيث لا وجود للحدث، بل لصورته، ولا للبهجة، بل لمحاكاتها. نضحك لأن الوقت يُملي علينا ذلك، لا لأن الدهشة سكنت فينا، ونبتهج لأن الطقس يفرضه، لا لأننا أحرار في شعورنا.
وكلما انخرط الإنسان في هذه الحلقة، كلما ضاعت قدرته على توليد الفرح الحر، ذاك الذي لا يُستدعى بل ينفجر من عمق اللحظة، ذاك الذي لا يُكرر بل يُبتدع، لا يُعلَن بل يُلمَس، لا يُؤدَّى بل يُعاش. ولأن الوجود نفسه لا يُقاس بالتقويم، بل بالنبض، فإن كل محاولة لتأطير الفرح في موعد محدد هي فعل قمع ناعم، واستلاب جديد، تُختزل فيه الذات إلى كائن طقسي يؤدي دورًا بلا روح.
وحين نعيد التأمل، سنجد أن العيد ليس خلاصًا بل تكرارًا، ليس انبعاثًا بل دوّامة، وأن الانتصار الحقيقي لا يكون في اللحظة التي نُعلن فيها الفرح، بل في تلك اللحظة التي نصنع فيها الفرح دون إعلان، حين نكسر السياق، وننحاز إلى اللحظة الحرة، إلى الشرارة الخارجة عن النسق، إلى الضحكة التي لا تبررها مناسبة، بل يبررها الوجود نفسه، بوصفه مجازًا للاندهاش.
أن تمارس الشغب كأنك تحتج على قوانين الزمن، أن تضحك بصوت عالٍ حتى تستيقظ الآلهة وتنتبه لوجودك، أن تُعلن تمردك على التقويم، أن تقول للزمن، سأفرح متى أشاء، لا حين تأمرني. العيد بمعناه الحقيقي اختراق، كسرٌ فجائيّ للجدول، هو فرحٌ لا يطلب موعدًا، لا يلبس ثيابًا جديدة ولا يشتري حلوى، وإنما يصنع من اللحظة مجرّة، ومن ويبتكر من الصمت قصيدة، يستطيع فيه المرء أن يصنع من الوحدة احتفالًا داخليًا يشبه العبادة. لم تكن البشرية بحاجة للعيد، كانت بحاجة لأن تكتشف أن الفرح لا يُستورد، لا يُؤجل، لا يُحتكر في يوم واحد، بل يسكن في قدرتك على أن تخلق من اللاشيء شيئًا، من البرد دفئًا، من الحزن أغنية، من الليل صراخًا يوقظ الكون. يا للفرح، يا للدهشة، يا للحياة حين تُولد في غير موعدها....!
الحاجة إلى العيد ليست نابعة من جوهر الكينونة؛ إنها انبثقت من حاجة الكائن إلى تزوير لحظة، إلى تقويم مصطنع يُسند هشاشته، إذ أن الفرح، في حقيقته الأولى، لا يُستجدى من الخارج ولا يُبرمج على إيقاعٍ زمنيٍّ محدد، وإنما يتفجر من أعماق الذات عندما تشتبك مع لحظتها الوجودية دون وساطة، ولأن الإنسان في ضعفه الجوهري عاجز عن خلق فرحه الذاتي، اخترع العيد كقناع موقت يواري خيبته، وكأن البهجة، بدل أن تُمارَس كحالة داخلية حرة، أُسندت إلى تاريخٍ خارجيٍّ ينتظم في جدولة الطقوس، وبهذا التواطؤ الجماعي، تم تحويل الفرح من انبثاق إلى تكرار، من حدس إلى عرف، لقد تحولت البهجة من رعشة حرية إلى احتفال زائف يفيض بالبهرجة ويُفرغ الكينونة من محتواها.
ولأن العيد لا يُولد من ذاته، بل يُصنع وفق متوالية رمزية محكومة بقواعد جاهزة، صار الوصول إليه عملية استهلاكية تتطلّب الإنهاك وتستنزف الشعور، إذ يتقدّمه الانتظار ويتوسّطه التكلّف وتتبعه الخيبة، بينما الفرح، كما هو في صورته الأنقى، لا ينتظر اكتمال الشروط ولا يخضع لمنطق الاستحقاق، وإنما ينهض كبرق داخلي يضيء عتمة الوعي ويحرّر الجسد من سكونه، ومن ثم فإن العيد، كمفهوم جماعي، لا يلبّي حاجة الروح بل يسدّ فجوة مؤقتة في نظام الانتماء، ومن خلال هذا التمويه الشعائري، تُعاد تشكيل الإنسان ككائن مبرمج على لحظات مفروضة لا كذات حرة تُنتج بهجتها من اشتباكها الحي مع المعنى، وبهذا التصنيع الزمني للفرح، يُختزل الوجود في سلسلة من الاحتفالات القسرية التي تخنق الصدفة وتكمم العفوية وتحوّل الطقس إلى واجب، ولأن العيد يرتبط ارتباطًا عضويًا بفكرة الجماعة، فإن الفرد يُختزل فيه إلى دور، ويُمنح مساحة ضيقة للتعبير، فيتحول من كائن شاعر إلى وظيفة مؤقتة ضمن منظومة المشهد العام، ولأن البنية الاجتماعية لا تحتمل الفوضى الشعورية، فإنها تنظّم الفرح وتؤطّره وتقدّمه كمنتج لا كتجلٍّ، ومن هنا تصبح البهجة مأساة مؤجلة، إذ يُستنزف الإنسان في سبيلها، ثم يُعجز عنها في لحظتها، ويستسلم للنوم بدلًا من الاحتفال، لأن ما بُني على الإنهاك لا يمكن أن يُثمر اكتمالًا.
البهجة التي تُهندس تفقد حرارتها، فالفرح الذي لا يُولد من اضطراب داخلي، لا يملك القدرة على النفاذ، وإنما يبقى مجرّد عرضٍ تزييني يمرّ دون أن يلامس جوهر الوعي، ولذلك فإن العيد، كما يُمارس، لا يحرّر الإنسان، إنه هنا يعيد إنتاجه داخل قفص التكرار، إذ يخضع فيه لسلطة التقاليد ولسطوة الجماعة ولسلاسل الإلزام الشعوري، بينما الفرح، حين يتجلى كضرورة وجودية، لا يُبرَّر ولا يُستعَار؛ إنه يُعاش كوميض منسيّ، كصرخة تشقّ الروتين، كتمرّد ناعم على هندسة الحياة، ومن هنا فإن قيمة الإنسان لا تُقاس بقدرته على الاحتفال في المواعيد، وإنما بحريته في اختلاق المعنى خارج الأطر، وصنع اللحظة خارج الزمن الجمعي، فالفرح، حين ينبثق من الذات، يتحرر من جميع أشكال التمثيل، ويصير لحظة وجودية خالصة، لا تحتاج إلى زخرف ولا إلى إجازة رسمية من التاريخ.