مقالات
الفسيل المعارض أبداً ومذكراته: الحياة التي عشت
الأستاذ محمد عبد الله الفسيل من الرجال الأفذاذ. إنه مناضل استثنائي بحق. المعارض دوماً، والعدو الأول للاستبداد في المراحل المختلفة. نشأ اليتيم ابن صنعاء في عشرينات القرن الماضي في أقسى بيئة، وأسوأ عهد. شق طريقه كراعي غنم، وهل منكم إلا رعاها؟! حديث الرسول الكريم.
انغمس في التعليم السائد في قريته الجراف من ضواحي صنعاء. انتقل طفلاً إلى المدينة، وواصل تعليمه. نبوغه المبكر لفت انتباه أساتذته وزملائه. في تدوينه لسيرة حياته - حياة عصره: "الحياة التي عشت: حكايتي مع تحولات الفكر والسياسة في اليمن".
الكتاب الضخم في مجلدين بالقطع الكبير، يقع المجلد الأول في 555 صفحة، أما الثاني ففي 368 صفحة. وحسناً فعلت الأستاذة النوبلية، توكل كرمان، في طباعة الكتاب، وقد طبع الكتاب في المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت.
الكتاب المنوَّه به سِجل حافل بمسار المعارضة السياسية، والحركة الوطنية منذ ثلاثينات القرن الماضي، وحتى ما نعيشه اليوم.
من الملاحظ في تدوينه لأحداث عصره في اليمن أنه لا يتفوق على ذاكرته الدقيقة والحية إلا شجاعته النادرة والفذة. عاش قريباً جداً من ولي العهد أحمد في تعز في أربعينات القرن الماضي بسعي من صديقه الحميم أحمد الشامي، وفي حين كان طموحه هو الحصول على منحة دراسية في مصر، وجد نفسه سجينا في القلعة في تعز.
هرب إلى عدن، ليصبح واحدا من أهم قيادات الأحرار - حزب الحركة الوطنية الأم في المتوكلية اليمنية، ثم في الجمعية اليمنية الكبرى، ومحررا في صحيفة "صوت اليمن"، الناطقة بلسان الجمعية.
يعد الأستاذ الفسيل من أشهر سجناء 1948 في حجة بعد فشل حركة 48 الدستورية في شمال اليمن، وله نشاط واسع أدبي وثقافي وصحفي في معتقلات حجة.
يدون بموضوعية وصدق قضايا السجناء من رجالات اليمن وقادتها، وسجل وقائع الإعدامات الجزاف الجائرة بدون تحقيق أو محاكمة عادلة أو غير عادلة، وإنما بمجرد وصول برقية من الطاغية أحمد حميد الدين: أعدموا فلانا وفلانا وفلانا؛
فقد أعدم الإمام الدستوري عبدالله الوزير وعددا من إخوانه وأسرته، كما أعدم حسين الكبسي - وزير خارجية الحركة، وأساتذة أجلاء كأحمد الحورش، ومحيي الدين العنسي، وأحمد المطاع، وعشرات من الأحرار الداعين إلى الدستور، وبناء دولة شوروية إسلامية، وكان دستور الحركة (الميثاق المقدس)، والذي لا تزال بعض بنوده حية.
كان ينتظر الإعدام كزملائه في أية لحظه، وحين نجا من الإعدام في سجون حجة الرعيبة، تعرض لمحاولة اغتيال في عدن في ستينات القرن الماضي. هرب إلى مصر، وعبر السعودية، فاعتقل هناك، وأعيد إلى الإمام أحمد.
كانت خصومة الطاغية للفسيل سببها تأليفه كتاب "الرجل الشاذ"، وهو كتاب يتناول شخصية أحمد حميد الدين منذ كان وليا للعهد، إضافة إلى معارضته.
التقى الفسيل بالطاغية وجها لوجه في الحديدة، وكان الطاغية ينتظر منه الركوع، ولكن الفسيل لا يركع إلا لله.
كان الدينامو المحرك لثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، والضمير المستتر فيها.
كان هناك تخوف لدى الأحرار من تغول البيضاني، الذي وضعه السادات على رأس الاتحاد اليمني - حزب المعارضة الامتداد لحزب الأحرار؛ فتحرك الفسيل متخفيا من عدن إلى صنعاء قبل أسابيع من قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، والتقى بمجموعة الضباط الصغار (تنظيم الضباط الأحرار)، وبمجموعة البدر المدنيين والعسكريين، وبأبناء المشايخ المؤيدين للثورة، وكان له دور مشهود في تحريك عجلة الثورة، وفي إذاعة بيانها.
اختلف مع المشير السلال - رئيس الجمهورية، ورفيقه في سجون حجة. كان الفسيل كأستاذه أبو الأحرار - شاعر الوطنية (كتسمية الجاوي)- محمد محمود الزبيري، وكما هو الحال بالنسبة لكبار المشايخ المجمهرين، وتيار البعث، والإسلاميين؛ حيث كان لهم موقف ضد نهج مراكز القوى المصرية: عامر، والسادات، وموقف من الحرب بين الجمهوريين والملكيين، وضد الإعدامات، ورؤية خاطئة للموقف السعودي المعادي، وطبيعة الحرب الجمهورية - الملكية، ودور مصر القومي، ورغم حضوره مؤتمر الطائف 1965، الذي دعا إلى دولة إسلامية، إلا أنه سرعان ما ميز نفسه عن الجمهوريين المنشقين.
هو حاضر بقوة في انقلاب الـ5 من نوفمبر 1967، بعد العودة من أسمرة. كان اليساريون ينظرون إليه كجمهوري منشق، ولكن زيارتهم لمنزله لم تنقطع، وكان التحاور معه مستمرا؛ فهو يميز نفسه.
له رأي في حركة الـ13 من يونيو 1974، التي تعاون معها؛ فهو من ناقدي حكم القاضي عبد الرحمن الإرياني الذي رأى فيه وفي سِني حكمه أن سلطة القبيلة طغت على سلطة الدولة، وأصبح شيخ القبيلة سلطة عليا فوق النظام والقانون، وقد حدت حركة الـ13 من يونيو 1974 من تغول كبار المشايخ المجمهرين؛ لتعود أقوى في سلطة علي عبد الله صالح.
يقدم الفسيل رأيه في الأوضاع زمن القاضي عبد الرحمن الإرياني، يقدمه لرئيس مجلس القيادة إبراهيم الحمدي، ولأول مرة يعين مستشارا سياسيا لرئيس الدولة بدرجة نائب رئيس وزراء.
الأستاذ الفسيل المتعدد المواهب، والشاعر الذي أصدر ديوانه الشعري، تجد في تجربته الشعرية قدرا غير يسير من الرومانسية والإبداع، وهو الصحفي المقتدر والماهر، والمناضل العنيد.
حياته الممتدة لتسعين عاما أمضى منها قرابة السبعين عاما في المعارضة. اقترب من العسكريين منتقدا، ومن كبار المشايخ رافضا هيمنتهم، وتكوين مصالحهم الأنانية على حساب قبائلهم؛ مما دفع بقبائلهم إلى التخلي عنهم في ساعة العسرة.
غادر حزب البعث سريعا بعد انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة، ناقدا غياب الديمقراطية في الوحدة، ونال علي عبد الله صالح، وسلطته الفاسدة والمستبدة، النصيبُ الأوفى من الانتقاد والمعارضة.
انخرط في صفوف شباب وشابات ثورة الربيع العربي في اليمن 2011، وجعل من منزله القريب من ميدان الستين مقرا للاجتماعات، وساحة للاحتجاج.
ظل محمد عبد الله الفسيل محافظا على مسلكه المعارض، ونهجه الثوري، وأسلوبه الديمقراطي حتى قبيل موته.
الفسيل الهارب، في مطلع حياته من الطغيان، مات في القاهرة هاربا من الحروب الكارثية، ومن الاستبداد، وحكم الغلبة والقوة.
مذكراته مدونة كبرى، وسفر خالد لنشأة وتطور مسار الحركة الوطنية، وهو ما يحتاج إلى قراءة بل قراءات.
كان الفسيل إلى جانب عمر الجاوي، والدكتور عبد الرحمن عبد الله الصناع، الحقيقيين لدستور دولة الوحدة المستفتى عليه، الذي انقلب عليه وعلى الوحدة علي عبد الله صالح في حرب 1994، التي كانت ولا تزال سبب الكارثة التي نعيش.