مقالات
المناضل الوطني محمد سالم باسندوة
الأستاذ محمد سالم باسندوة من الرموز الوطنية الكبيرة، ومن مؤسسي الحركة الوطنية الحديثة (حزب الشعب الاشتراكي)، ومن مؤسسي الصحافة العدنية - المؤسِّسة للمدنية والحداثة، والكفاح النقابي والسياسي: (النور1957)، و(الحقيقة1961).
كان من القيادات المؤسسة لحزب الشعب الاشتراكي 1962، وهو الحزب الآتي من المؤتمر العمالي.
أصدر المناضل والمفكر والقائد السياسي كتابه "البداية: نضال من أجل الاستقلال"، وهو الكتاب الثاني بعد إصداره الأول: "قضية الجنوب اليمني: وثائق، وذكريات، وخواطر".
كتابه "البداية" دوَّن فيه سيرة حياته النضالية منذ النشأة 1935. عمل في التجارة لفترة قصيرة، ثم انصرف كليةً إلى العمل الصحفي والنقابي العمالي والسياسي الحزبي.
قلائل من السياسيين اليمنيين والمناضلين الوطنيين الذين يستمرون بدأب ومثابرة في العمل السياسي، والمتابعة، والاطلاع، كما هو الحال بالنسبة للأستاذ محمد سالم باسندوة - مد الله في عمره. فحياة الرجل زاخرة بالنشاط الواسع، والعطاء المثمر، وسيرته العطرة مليئة بالبذل حد الفدائية.
كان الأستاذ بمثابة سفير للحركة الوطنية الداعية إلى الاستقلال في جنوب الوطن، وقد تبوأ مناصب عديدة في الجمهورية العربية اليمنية كرئيس للجهاز المركزي للتخطيط، ووزيرا للخارجية، ووزيرا للإعلام، كما تبوأ بعد ثورة الربيع العربي في اليمن رئاسة الوزراء، وكان في قلب التطورات والأحداث على مدى أكثر من نصف قرن.
الميزة الحقيقية لهذا المناضل ابتعاده عن الخصومات، والصراعات الدامية، وصدقه، بل وتواضعه الجم في قراءة الأحداث التي كان أحد صناعها، خصوصا فيما يتعلق باستلام الجبهة القومية للسلطة.
مذكراته "البداية" تقع في 285 صفحة قطع متوسط، مهداة لزوجه خديجة سالم محمد العمودي، ولابنه وضاح، بتقديم من لطفي فؤاد نعمان، والأستاذ الدكتور أحمد يوسف أحمد.
يصف الدكتور الباحث والأكاديمي أحمد يوسف، ومعه حق، ذاكرة باسندوة بالحديدية، والموضوعية؛ مضيفا: "ولا أذكر أني قرأت تحليلاً أكثر موضوعية مما ورد في هذه المذكرات".
كما يشيد بدوره في صنع الاستقلال، وإعطائه الأولوية، ورحلاته المكوكية في البلدان العربية، والعواصم الأفريقية، والآسيوية، والأوروبية، ولقاءاته بالزعماء العرب، وبالأخص الزعيم العربي جمال عبد الناصر، وحضوره العديد من المؤتمرات الدولية، واجتماعات الجامعة العربية، ومؤتمرات دول عدم الانحياز.
زياراته المتكررة للأمم المتحدة كلها دفاع عن قضية الجنوب، ونيل الاستقلال. وحقيقة الأمر، ومنذ تأسيس حزب الشعب الاشتراكي عام 1961، أصبح الأستاذ بمثابة وزير خارجية الحزب، والناطق باسمه.
تتجلى قراءته الموضوعية والصادقة في رصده لنشأة الحزب، وتكوين جبهة تحرير الجنوب اليمني عام 1964، كمنافس للجبهة القومية التي بدأت بالابتعاد عن القيادة المصرية في تعز، وحققت انتصارات مهمة.
يدوِّن بدقة رحلته الزاكية كطالب، ثم متعاون مع أخيه الأكبر عبد الله في النشاط التجاري، ثم الانصراف إلى العمل الصحفي، ومن خلال العمل النقابي في المؤتمر العمالي، ثم في حزب الشعب الاشتراكي، وممثلاً للحزب عربيا ودوليا.
كان حضوره العربي والدولي كبيرا، واتسم بالاتزان، والبعد عن العداوات مع المختلف السياسي، واستطاع بمهارة نسج علاقات مع الأنظمة المختلفة في مصر، وسوريا، والعراق، والجزائر، والكويت، والعربية السعودية، ورغم انتمائه للمؤتمر العمالي، وعلاقاته بالاتحاد العمالي الحر، وعلاقته بحزب العمال البريطاني، إلا أن باسندوة كان متميزا في الموقف، وقد تعرض للاعتقال، والإساءة، والطرد من وطنه - مدينة عدن- بطريقة مهينة وسيئة.
يدرس نضاله منذ فجر الشباب، وانخراطه في المظاهرات والثورات، وكفاحه في سبيل الحرية، ورحلاته إلى الأمم المتحدة، ودفاعه إلى جانب رفاقه عن قضية الاستقلال، وزياراته المتكررة للندن، ودور جبهة تحرير الجنوب اليمني بين الكفاحين: السياسي، والمسلح. ويسترجع ذكريات الاعتقال، والأيام الدامية، ومفاوضات الاستقلال التي كان حاضرًا فيها، وأخيرا صفحات القتال، والسجال قبل الاستقلال، ثم الملاحق.
يرصد بدقة مسار أحداث الكفاح الوطني لنيل الاستقلال، ومواقف الأحزاب والنقابات والشخصيات والمشيخات والسلاطين والحوارات التي دارت بين هذه الاتجاهات، وبالأخص بين القومية والتحرير، سواء في اليمن أو في مصر، ونقطة الضعف أن القيادة المصرية، وبالأخص المخابرات، كانت تفرض التوحد بصورة غير ديمقراطية، ولغايات تكتيكية لا تخدم أهداف الثورة التحررية، ولا مبدئية الكفاح المسلح، لنيل الاستقلال، وهو ما شرحه الأستاذ باسندوة باستفاضة في "رفض فيصل الشعبي عرض الملك فيصل إشراك الرابطة" (ص 244). أو تناوله لتجدد القتال بين الجبهتين (ص244). كما يتناول الاتهامات الموجهة ضد الجبهة القومية، وملابسات انضمام الجيش والأمن لها (ص 246).
يقدم الأستاذ سبعة أسباب تزكي انتصار الجبهة القومية، وخسارة جبهة التحرير، التي كان الأستاذ واحدا من أهم مؤسسيها وقيادتها، وأن الجيش والأمن بانضمامها إلى الجبهة القومية ليس بتوجيه الإدارة البريطانية، وإنما كان خيارا وطنيا، وثمرة امتداد الجبهة في العديد من المناطق، واستقطابها للعديد من قادة وضباط تلك القوات، ويؤكد على النشاط التنظيمي لدى القومية، وضعفه في التحرير، ويشير إلى حداثة تأسيس جيش التحرير العائد إلى العام 1966، وقلة عدته وعتاده، وهذا العام هو الذي فرضت فيه المخابرات المصرية قضية الدمج القسري.
مؤتمر الطائف، وبيان الدولة الإسلامية بين الجمهوريين المنشقين، والملكيين 1965، واتفاقية جدة بين الرئيس جمال عبد الناصر، والملك فيصل 1965، ومن ثم مؤتمر حرض 1965 - أحدثت تبدلات جد خطيرة في الموقف المصري، وكان الدمج القسري في يناير 1966 معطى من نتائج هذا التبدل.
لم يشر الأستاذ إلى موقعه بعد انقلاب الـ5 من نوفمبر1967، والمسؤوليات التي اضطلع بها، ودوره في ثورة الربيع العربي، فقد نأى بنفسه عن الحكم، وأصبح منزله مزارا لشباب الربيع العربي في اليمن، يأتونه شاكين باكين من استيلاء جنود وضباط الفرقة الأولى مدرع على الساحات، وإقامة الحواجز بين الرجال والنساء، والاعتداء المتكرر في المسيرات على الفتيات لمنع الاختلاط، وهيمنة أحزاب اللقاء المشترك على الفضاء العام، وكان الأستاذ - رعاه الله- لا يمتلك غير دموع يسفحها، كتعبير صادق عن استشعار الخطر القادم، والعجز.
ذهبت والعزيز أحمد كلز لتسليمه - كرئيس وزراء- خطة من ضباط مهمين لهيكلة الجيش؛ فدفع بالخطة للرئيس عبد ربه منصور المراهن على السعودية وأمريكا، بينما كان الأستاذ محاصرا بالأخوة الأعداء الذين يتحاورون في موفمبيك، ويتقاتلون في مناطق عديدة من اليمن، وحول موفمبيك، وهم في الحكم، ويقتتلون عليه.
تحية للمناضل الفاضل، ولإصداره الرائع والموضوعي، ولذاكرته التي لا تشيخ.