مقالات
اليمن.. ترميم الذاكرة للحفاظ على الهوية
يستميت اليمنيون في الدفاع عن حقهم في الحياة، سواء داخل أرضهم، حيث تنهش مخالب الحرب أجسادهم المنهكة بالفقر والجوع والمرض، أو في الشتات، حيث يكابدون من ضعف الحال وقلة الحيلة.
يُقاوم اليمانيون، نساؤهم ورجالهم، خصوصاً الشبان والشابات منهم، كل محاولات تحويل خارطة بلادهم إلى مجرد فسيفساء من الجماعات المذهبية والقبائل اللاهثة وراء كل ما يشبع نهمها للسلاح وللقتل والتدمير، وللثأر من بعضها.
يرفضون أوهام البعض بإمكان تركهم يتخبطون في صراعاتهم ليتحولوا إلى حديقة خلفية للعالم، عبر إغراقهم في بحارٍ من الكراهية والبغضاء، يتحللون فيها من جيناتهم، وجعلهم يصبحون أشبه بالديدان والقوارض في بلد لا يمكن له، بل يستحيل، أن تُستنسخ فيه مستنقعات حروب الإبادة ومحو الهوية، كما حدث في بلدانٍ كثيرة عبر التاريخ.
يُبهرنا اليمنيون حيث ما حلوا أو رحلوا، بإطلالاتهم علينا بقصص نجاح في كل ميادين الحياة المتاحة لهم، ومن بلدانٍ في أقاصي الأرض وأدناها، كان من غير المُتخيل يوماً أن نراهم فيها يكدون ويجتهدون وينافسون بكل ذكاء واقتدار وجدارة.
أهم ملمح في هذا المشهد هم أولئك الشباب والشابات الواعدون الذين تحفل بهم الكثير من أفضل الجامعات والمراكز البحثية والعلمية في العالم، حيث ينهلون المعارف والعلوم في سائر المجالات والتخصصات، وغيرهم ممن اقتحموا أسواق المال والأعمال بشركاتهم الصغيرة ومشاريعهم الاستثمارية الطموحة، وحتى بتلك المطاعم اليمنية التي باتت تنتشر في مدن عالمية عدة، وتجد إقبالاً متزايداً من قِبل سكان تلك المدن.
مثل هؤلاء يمثلون تعويضاً عادلاً عن أولئك الذين دفعت بهم الحرب إلى مهاوي الانقسام والاصطفاف إلى جانب مليشيات القتل والتدمير، وإفساد كل فرص الحياة والعيش المشترك.
ما يبعث على الدهشة أيضاً، أنه بقدر ما تقتضيه متطلبات الاندماج في تلك المجتمعات، هو التشبث بهويتهم الاجتماعية والثقافية، والتعبير عنها بصور إبداعية تجعلهم موضع إعجاب واحترام وتقدير وترحيب.
لم يعد المهاجرون اليمنيون اليوم مجرد عمال وطلاب رزق فقط، على ذلك النحو الذي كانت عليه الأجيال السابقة، بل أصبحوا اليوم، إلى جانب عائداتهم ودعمهم المادي لعائلاتهم في الداخل، جزءاً من النسيج الاجتماعي لدول المهجر، وعنصراً مفيداً في سوق العمل وفي حياتها الثقافية أيضاً.
ذلك لا يعني أن الطريق أمام بعض الحالات الناجحة كانت مفروشة بالزهور، بل إن كل تجربة نجاح لا بُد أن تقف أمامها صعوبات وعراقيل جمة، لكن تجاوز هذه التحدّيات وعدم الاستسلام للإحباط واليأس، هو ما يجعل للنجاح عند أصحابها قيمةً ومعنى.
ومع كل ذلك، لا يجب إغفال أن ثمة نماذج سلبية للمهاجرين اليمنيين، نقلت أمراض وتخلّف واختلافات الداخل إلى الخارج، وتخندقت وراءه طويلاً، ولم تستطع الخروج منها إلى الفضاءات التي وفرتها لهم هجراتهم إلى عوالم مختلفة جديدة، فلم تكتسب ثقافةً، أو تتقن لغةً، أو تجمع مالاً، بل استرخت وتخلت عن كل شيء، بما في ذلك عائلاتها التي اضطرت إلى الاتكال على مساعدات الرعاية الاجتماعية بدلاً من الاعتماد على ذاتها.
لا أتمنى أن تطول غربة اليمني خارج بلاده بسبب الحرب وعدم الاستقرار السياسي فيها، فضريبة الغربة ليست قليلةً أو يسيرة، نفسياً وعقلياً وإنسانياً، فمهما كانت سعادة ورفاهية اليمني في بلدان المهجر، إلا أن تلك الأوطان تظل بلاد الآخرين، وما من وطن بديل لليمني، المتعلق بهويته، والفخور بروحها ونكهتها، سوى اليمن.