مقالات

أوراس الإرياني و "جلوسًا على العين أو وقوفًا"

02/06/2024, 13:57:30

أهدتني مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر جل منشوراتها عند زيارة المؤسسة. شعرت بسعادة غامرة، وكانت السعادة أزكى بحصولي على ديوان الشاعر الرائع أوراس الإرياني «جلوسًا على العين أو وقوفًا».

أهداني أوراس ديوانه قبل أشهر، ومن حبي وحرصي على قراءة النص الشعري الغرائبي كنت أصطحبه معي أثناء الذهاب إلى مقايل القات. فقدت الديوان، وفتشت عنه في غير مكان، ولم أجده. أعدت القراءة من جديد. فأوراس من عشرات ومئات الشعراء والكتاب: شابات، وشبابًا الذين يستشرفون آفاق الآتي، ويتطهرون من أوزار الحاضر، وإثم الماضي، ويتخففون من جثث الإيديولوجيا، وبؤس وتعاسة مخلفات الصراع، وجرائم الاحتراب، واجترار الضغائن والأهوال. 

العنوان خروج على الجملة المبذولة على الألسن على العين والرأس. ترك أوراس الرأس، وجعل الترحيب الجديد لقارئه أو لأيٍّ كان: جلوسًا على العين أو وقوفًا. يتجاوز السائد والمتداول، ويصوغ ترحيبه الخاص، وتختزن التسمية قدرًا من السخرية. 

الإهداء لزوجته إيناس غرائبي هو الآخر "كوردة بين العاصفة". منذ البداية والإهداء ينذرك فيه الشاعر بأن ما يكتبه يتجاوز قوانين النظم القديمة: التشبيه بأنواعه، والاستعارة بمسمياتها، والمجاز، ويقفز بعيدًا عن معايير الصورة في الشعرية الحديثة. فجملته بعيدة عن المفارقة والانزياح؛ فهو يكتب نصًا مغايرًا ومختلفًا عن السائد والمتداول في الحياة العامة وعن البلاغة الحديثة والصورة الزاهية في الشعرية الحديثة، والغنائية الباكية. 

المسافة ترتجف في أصابعه، ترتب أشجار الكتابة والكلام، تبني بيوتًا من العيون والأمنيات، المسافة دمعة بقدم واحدة.

لا صلة ولا قرابة بين البلاغة القديمة، وهذا النص المغاير والمختلف والبعيد عن المفارقة والانزياح في الصورة الشعرية الحديثة؛ فهي أقرب للوحة الفنية التي يرسمها فنانون كبار.

المسافة المرتجفة في الأصابع ترتب أشجارًا للكتابة والكلام. إنها القصيدة التي نقرؤها ونتملاها لوحة من حديقة أشجار ثمرتها الناضجة هذا العطاء. 

يحتل الحزن مساحة شاسعة في قصيدة أوراس: 

هواء مر بين الشعب في المكان الذي غاب كمسافة، وصار ظلي 

اخترعت مطرًا يعلل طيورًا بنت عشها من الحزن في المكان الذي غاب كمسافة 

مشيت كثيرًا مع قلبي

يتوحد أوراس بالمكان، بل يصهر المكان ويحوله إلى ظل له، ويخترع أو ينزل مطرًا إبداع القصيدة؛ فيبلل طيورًا بنت عشها من الحزن.

المكان الذي غاب فيه يمشي كقلبه.

هم الكتابة، والدأب والاستعداد لها، والتفنن في الصياغة أساس. مفردة الحزن والمبنى والمعنى يحتل المساحة الأولى في الديوان. 

موهبة الشاعر مقدرته الفائقة على الارتقاء بالعادي إلى مصاف الإبداع، والمقدرة على تحويل المقال قصيدة، والقصيدة مقالاً، والمزج بين المقال، والشعر، والسرد، واللوحة؛ تتمازج الأشكال الثلاثة في «جلوسًا على العين أو وقوفًا»، وأحيانًا في القصيدة الواحدة، أو المقالة، أو السردية - اللوحة. 

الإيداع يتجلى في خلق معانٍ للغة مغايرة ومتباينة. علّم الله آدم الأسماء كلها، وجاء كتاب الرسائل القصيرة كرؤية الجاحظ، ومن ثم أصحاب المعاجم والقواميس والأدباء والشعراء وحتى الفقهاء والمتكلمون ليعطوا للألفاظ معاني واصطلاحات تعزز رؤاهم ومذاهبهم.

المبدعون الحقيقيون هم الذين يستطيعون إعادة ابتكار معانٍ جديدة، ودلالات مغايرة ومختلفة عن المدونة والمتداول؛ فمجازهم مبتكر، وصورهم وأخيلتهم داهشة وغرائبية. 

هل تذكرين الشارع الذي كان خاليًا عن المارة، وكنت تمشين فيه لوحدك؟ لم يكن شارعًا! بل كان قلبي أتذكرين الحزن الذي رميتِ به من النافذة؟ لم يكن حزنًا بل كنت أنا! من قصيدة «ارتعاشة».

فللحزن في قصيدة أوراس ألوان ومعانٍ وصور عديدة.. أَكلَ بعض الحزن رسم أسنان المدن التي عضت طفولته نظف تعبه له دموعه خوفه قلقه، ويتساءل بحرقة وألم حد البكاء الممتنع والدمعة المحبوسة: ما الذي سأضيفه لهذا الحزن؟! ويجيب: دمعة لا تستطيع النزول يكرر التساؤل ما الذي سأضيفه لهذا الحزن؟! ويجيب بسخرية مريرة: ربما ذبابة على رأسي تركتها تهشه. 

يتغلغل الحزن في مسام جسم الشاعر، ويجري في عروقه مجرى الدم، ويلازمه في كل تفاصيل حياته؛ بل هو ظل يجيب على أسئلة الأطفال والمقاهي لا يسقط على الأرض يلم ملامح الناس يعلمهم رسم الريح في ذاكرتهم يرتب حماقات الدموع في الطرقات - إلى العيون فالحزن هو المعنى الكلي الشامل للحياة، وهو -كما في قصيدة «شقوق»: صديق يضع يده على خد أوراس ويغلق النافذة، ويصنع من أوراس قارورة صغيرة أقل ضياعًا مني يحكي رحلته مع الحزن منذ الطفولة بلسان الغائب عندما كان صغيرًا كان يذهب إلى المرآة كلما شعر بالحزن ويقف أمامها ويبكي كان يحب مراقبة دموعه، وعندما كبر كان يذهب إلى المرآة كلما شعر بالحزن ويقف أمامها فتبكي المرايا. 

والشاعرية هنا في الفكرة المبتكرة، وفي أنسنة المرايا، ويتعامل مع الحزن ككائن -امرأة- يمسك بقدميها، يعلمها الهدوء، واكتشاف كواكب أصغر، ويرى، وهو في غيابات الحزن بمجرد التحديق في سقف المعرفة يمكنك أن ترى الكون كله حزينًا.

في القصيدة «شقوق» يرى أوراس كل واحد عمارة من الأحزان خالية من الأحلام، نوافذها تطل على شارع مظلم، والأفجع رؤيته للشارع المظلم.. تمشي فيه الدموع والأوجاع في خاتمة القصيدة يرى الحروف التي لم يستخدمها في الكتابة عن الحزن كانت دموعه.

كقراء نرى أو نظن أن دموعه شكلت الكلمات، ونسجت التأمل، وصاغت الحروف.

في القصيدة همس يأمر القلب بالصمت؛ فلديه من الأحزان ما يكفي لكتابة قصيدة طويلة، وهو ما يؤكد سوء ظننا أن الحزن هو النبع الصافي والخالد.

فالحزن هو النبع الأصيل، والذخيرة والمدد لكتابة القصيدة.

كتابة القصيدة الأوراسية هي الهم، والمعطى الثاني الآتي من الحزن.

الحزن قصيدة طويلة، وشارع ونافذة، وطفل ينظر إلى الشارع.

يستطيع أوراس أن يأتي أحيانًا قبل صديقه الحزن بعشر دقائق؛ فيعانق... قصيدة «متاهة».

في قصيدة «تجوال» يرتقي بكتابة المقال إلى أعلى مراتب الشعر، ويرى الأحلام شوارع ترابية الحاكم نصف فم والنصف الآخر مكنسة كهربائية الكتابة عن الخيال تؤلم الأصابع؛ لذا سأكتفي بهذا النزيف حواره مع الكلب المكسور الرجل تعبير عميق عن روح إنسانية، وعن إحساس رفيع بألم الحيوان، وحب واحترام الحياة، وفي قصيدة «انبعاث» يصبح الحزن زرافة تسكن رأسه. 

في قصيدة «قمامة بين المطر» يصاب الإسفلت بالزكام، وتصيبه نوبة من السعال، ويضاجع الذباب وسادة الحزن، ويخفف الأحزان التي صارت أعناقًا في كل عام جديد.

قبر أمه راقية في عدن، وقبر أبيه محمد عقيل الإرياني مصدر شعوره بالوحدة.

يرسم لوحة راعبة وبشعة للحرب.. حياتنا امرأة بلا نهود تحت أظافرها جثث ترضع لبن الرصاص والمسابح والحطام، وكلما حكت جسدها نموت من قصيدة «بقع سوداء»؛ يصف حقيبة صديقه جميل سبيع بأنها ثقيلة كحياة أوراس. 

وفي «ضفة على التساؤل» يصف السير على جبل الحروف مخافة الوقوع في النثرية. يربط بين قصف الطيران، وارتفاع أسعار الدولار.

وبجملة شديدة الإيجاز والتكثيف يدمغ الحرب.. الطفل لا يعرف معنى الحرب، ولكنه سيدلك على قبر أمه.

وهي أبلغ من بيانات المجتمع الدولي أو الأحزاب، وأصدق، والقصيدة مزج حد التماهي بين القصيدة والمقال.. وظيفة الشاعر في الحرب الانتظار عاريًا كما في قصيدته «قمامة بين المطر».

وانتظار الشاعر المجرد من كل شيء بما في ذلك ما يستر العورة كأروع تعبير عن الاحتجاج، وما تفعله الحرب، وحتى وهو يعبر الصراط المستقيم حبل الحرف مخافة الوقوع- يستطيع أوراس أن يكتب جملة أقصر من قامته أبلغ وأطول إدانة للحرب و"للصوص الثائرين" الزائفين.. حين يدخل المواطن يديه في جيبه تبدُ أيادي من وعدوه ببناء الوطن. 

من قصيدة على صفحة «التساؤل»، يحار الشاعر هل ما يكتبه مقال أو قصيدة؟ ويمشي على خيط رفيع بينهما. عمق الفكرة يرتقي إلى سماوات الإبداع.. ما أجمل العيش لو أن الفتى حجرٌ! والبلاغة كل البلاغة عمق الفكرة، واستحالة الأمنية.

مقال أوراس أو قصيدته -لا يهم- ما يهم حقًا المقدرة، وعمق السخرية بالمقدس، والاستهزاء بالثبوتي القطعي، وبالجملة الثورية الزائقة. 

والديوان زاخر بالنقد المبدع، والشاعرية عميقة الغور زاخرة بالغرائبية.

يهزأ بالمبادئ عندما تفقد معناها في الاستخدام الكاذب (الوطن للجميع)، ويشبهه بتحذير صحي كُتب على علبة السجائر، ويعتبر معرفة اسم عاقل الحارة من أهداف الثورة.  

يسخر من الكُتاب الفارغين المتمادحين، ومن العام الخالي من الكحول، والفصول والأحلام من قصيدة «العام العاصف»، وفي قصيدة «شمعة» المهداة لصديقه ضياف البراق يرى:

هناك مدينة خائفة ترتعش في عين طفل ويجعل عدم النقاش مع الثوار هوايته المفضلة.

أما في قصيدة «أجنحة»، فيرى أنه لم يبقَ منه إلا ابتسامة تجعله سعيدًا في عيون الآخرين.

ما كتبتُهُ ليس قراءةً نقدية، وإنما تصفح عابر كتحية إصدار أولاً، واعتذار ثانٍ وثالث.

مقالات

ترامب ونتنياهو وصفقة القرن

ربما كانَ من الأنسب أن يكون عنوانَ هذا المقال «نتنياهو وترامب وصفقة القرن». فنتنياهو مؤلف كتاب «مكان بين الأمم»، والذي تُرجِمَ إلى «مكان تحت الشمس» هو الأساس. فـ«صفقة القرن»، وما تشربه ترامب منها، وصرّح به هي المبادئ الأساسية لـ«السلام من أجل الازدهار»؛ فمصدرها كتاب «مكان تحت الشمس»، وفي 28 يناير أعلن الرئيس الأمريكي، خلال مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، نص الصفقة.

مقالات

حلفاء أم محتلون؟

الأوضاع الاقتصادية الكارثية، التي نعاني منها اليوم، ليست سوى انعكاس أكثر بؤسًا وكارثية لوضع سياسي مخجل.

مقالات

أبو الروتي (8)

بعد أن وصلتني رسالة جدتي الغاضبة، التي تطلب مني فيها أن أخرج من المعهد العلمي الإسلامي وأدخل مدرسة النصارى، بقيت حائراً لا أدري كيف أتصرف!! ولا ماذا أفعل!!

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.