مقالات

تاريخ اليمن بعيون سائق شاحنة مثقف!

03/03/2025, 12:01:52

كم هو العالم صغيرٌ حقاً، الأرض والحياة والناس أيضاً، وكم تصغر حكاياتنا عندما نصغي لسماع قصص الآخرين وتجاربهم.

 التقيت، في ترحالي حول العالم، بسائقِي سيارات أجرة وحافلات وقطارات وسفن وطائرات من مختلف الجنسيات، لكنني لم ألتق مثل هذا السائق اليمني الذي أنوي أن أحدثكم اليوم عنه.

من عاداتي الغريبة أن أنام مبكراً وأصحو كذلك؛ لأخرج قبل زحام وضجيج الناس والمركبات إلى صباحات مصر التي عرفتها في صباي مفعمةً برائحة القهوة والطعمية والفول، ثم أتجه إلى أقرب مقهى في الجوار، أتأمل الرائحين والغادِين، العائدين من ورديات عملهم الليلية، أوالذاهبين إلى أيامهم كل صباح بكل همةٍ ونشاط.

كان رجلٌ في العقد الثامن من عمره تقريباً يتخيَّر مقعداً ليجلس عليه في مقهىً خالٍ من أي أحد سواي، وذلك عند السابعة صباحاً في حيٍّ وسط القاهرة يعج بعد ذلك بعشرات اليمنيين المقيمين والزائرين والعابرين.

عندما لاحظت من ملامحه أنه يمنيٌ طلبت منه الانضمام إلى طاولتي الصغيرة بدلاً من جلوس كل منا لوحده.

وبعد سؤال وجواب عن أسباب وجوده في القاهرة، عرفت أن الرجل قدِم للعلاج من آلام في ركبتيه، أخبرني أنه بدأ حياته في قيادة شاحناتٍ لنقل البضائع داخل اليمن، وفي الجزيرة العربية، وهو في الـ18 سنةً من عمره.

سألته، وهو القادم من اليمن إلى مصر منذ أيام، عن أحوال البلاد والعباد، فتحدث الرجلُ بأسىً بالغٍ عما آلت إليه أحوال الناس من بؤسٍ وفاقةٍ وقهرٍ وانعدامٍ الأمن والأمان وفرقة وتمزّق.. لم يكن لديه الكثير لإضافته إلى معلوماتي سوى بعض المشاهد والظروف التي عاشها وهو في طريقه من تعز إلى عدن للسفر من مطار الأخيرة إلى القاهرة.

انهمر الرجل عليَّ بمعلوماتٍ، غايةٍ في الدقة، عن مراحل من تاريخ اليمن الحديث، شهدها بذاته، مسافراً ومقيماً داخل اليمن وخارجه.. معلوماتٌ لا يمكن الإحاطة بها حتى لو تناولتها عشرات الكتب والبحوث والدراسات.

 دقةُ وطريقة وصف الرجل لليمن، في زمن الإمامة وحتى قيام الجمهورية، وفي ظل عهود كل الزعماء الذين حكموا البلاد، جعلتني أشك في أنه كان مجرد سائق شاحنة، ولم يرد أن يتحدث عن خلفيةٍ أخرى جاء منها، كأن يكون ضابطاً سابقاً أو مثقفاً سياسياً حزبياً، أو مهاجراً في بلدٍ متقدّم ساعده على أن يفتح عينيه على حقائق في التاريخ والجغرافيا والسياسة لا يمكن أن تسترعي انتباه واهتمام سائق شاحنةٍ عاديٍ، أو غيره من بسطاء وعامة الناس.

 على مدى أكثر من ساعتين، أدركتُ حقائق يعرفها سائق الشاحنة أكثر مما كنت أعتقد أنني أعرفها كصحفي وباحثٍ على مدى أكثر من نصف قرن.

موضوعيةُ حديث الرجل ومعارفه ومعلوماته، التي استقاها بنفسه من واقع المعايشة لنحو ثمانية عقود من حياته الشخصية ومن حياة اليمن وعلاقات البلاد بدول الجوار (السعودية وعُمان)، حملتني على الشعور بتواضع ما اعتقدت أنني عرفته عن كل ذلك.

شرح الرجل وقائع الحرب بين المعسكرين الجمهوري والإمامي عقب اندلاع ثورة سبتمبر 1962، وإلى أي مدى كان أثر ذلك على الوضع الديموغرافي لليمن، خصوصاً في المناطق الحدودية مع السعودية وعُمان.

تحدّث سائق الشاحنة عن الحدود الجغرافية لليمن مع الجوار، وكيف تراجعت إلى الخلف، خصوصاً في الصحراء والمناطق الأخرى قليلة السكان لتتوسع في المقابل حدود "الجيران" على حساب حدود ومساحة اليمن الطبيعي.

تناول ماضيّ التجارة بين اليمن وجيرانه، وكيف تقلّصت صادرات اليمن من الحبوب والبُن لتزداد وارداته من المواد الاستهلاكية؛ مثل الإليكترونيات والكماليات وغيرها.

 تمنيتُ لو اتسع وقت الرجل لأسمع منه المزيد، لكن موعده مع طبيبه المعالج اضطرّه إلى المغادرة، تاركاً إياي في حيرةٍ وتساؤل عن جدوى كل ما كُتب عن تاريخ اليمن السياسي الحديث والمعاصر حتى الآن، ما لم تكن روايات كبار السن من عامة الناس كسائق الشاحنة هذا، ممن صالوا وجالوا في طول وعرض البلاد، وليس الساسة والقادة العسكريون وشيوخ القبائل فقط، جزءًا من مصادر البحث والتوثيق لمراحل ووقائع وأحداث لم يحط بها الكثير من الدراسات والمذكّرات.

مقالات

أفول إيران.. بقاء الحوثي!

معركة كسر العظم التي تدور الآن بين الكيان الصهيوني وإيرن، تعيد الحوثي إلى المشهد، ليس فقط بالمشاركة المنسقة في المعركة إلى جانب طهران، بل باعتباره ذراعها المركزي لمواجهة الغرب

مقالات

إيران وإسرائيل.. موازين القوة وأفق المواجهة

أخيراً، حدث ما كان متوقعاًً، بل مؤكداً في نهاية المطاف، أن تصبح المواجهة، بين إسرائيل وإيران، وجهاً لوجه على أراضي الطرفين، بدلاً من استخدام الوكلاء وأراضي الآخرين ساحةً لحربٍ عبثيةٍ غير مباشرة.

مقالات

الخيانة بلباس الجمهورية

يتشدّق أتباع طارق صالح "بالجمهورية"، كما لو أنهم استيقظوا فجأة ذات فجر على صوت المعركة، وقرروا أنهم أرباب الدولة وورثتها الشرعيون، وأن الشعب لا يُؤتمن على تاريخه، ولا يحق له أن يحدد هوية من يمثله، أو من يتكلم باسمه. يتحدثون عن الجمهورية كما يتحدث الكهنة عن كتبهم المقدسة، لكنهم ينسون أو يتناسون أن أول خنجر غُرس في جسد الجمهورية لم يكن بيد الحوثي، وإنما بيد من تربّى طارق في بيته، ورضع من ثدي سلطته، وتكوّن في دهاليز خياناته.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.