مقالات
ثورة تونس ومآل الربيع العربي
الثورة التونسية (الربيع العربي) هي أيقونة "الثورات السلمية" في المنطقة العربية كلها.
احتراق جسم البوعزيزي في تونس كان الشعلة التي أحرقت عروش الطغاة في المشرق العربي: مصر، ليبيا، اليمن.
واشتعلت الحرائق في سوريا والجزائر، والسودان، والعراق ولبنان.
كانت الثورة السلمية في تونس هي الأسرع والأكثر نجاحاً.
السمة العامة والمشتركة في "ثورة الربيع" في الوطن العربي الطابع الشعبي السلمي، وانخراط الفئات والشرائح الفقيرة والمهمشة وتقدمها على الأحزاب السياسية والاتجاهات المختلفة، وغياب القيادة على الأقل في المراحل الأولى، ويتسم شباب الثورة بقدر من العفوية والتلقائية.
وهو ما سهل وراثة الأحزاب السياسية، وانقضاض الاتجاهات الأكثر تنظيماً وقدرة وخبرة سياسية على الثورة.
يشير الباحث والمفكر عبدالإله بلقزيز، في كتابه "ثورات وخيبات" للانقسام الأيديولوجي المتخشب والحامل لإعاقة ابستمولوجية سادت طويلاً بين الدعوتين: الثورية والإصلاحية، فالثورة هي في نهاية المطاف إصلاح أيضاً، والإصلاح يبلغ في مستوى معين راتب الثورة وغاياتها".
ويتناول ما قد يظهر في الثورات في تونس ومصر والموقف من سوريا والمغرب، وبالأخص الموقف من الثورة اليمنية التي خصها بتثمين عالٍ.
وتتجلى رؤية الباحث في قرائته لمآل الثورات والانتفاضات الجارية؛ فيقرأ في عنفوان البدايات، و تواضع النهايات، إنها كانت "قسمة ضيزى".
تلك القسمة، التي حصلت بين الفريقين: أطاح الشباب بالاأظمة القائمة وأتى من يرثها في السلطة من خارجهم (…..)؛ ناب الشباب عن الأحزاب في تدمير السلطة. ويقدم بلقزيز نقداً مريراً للثورات البعيدة عن أي "قيد" نظري أو فكري؛ مما يصيب نضالات الشباب "بداء التجريبية" وانعدام الرؤية، والافتقار إلى برنامج العمل. ليخلص الباحث "أن الثورات العربية، حتى وإن بدت في الظاهر على غير المعهود في القواعد الكلاسيكية للثورة، ومنها أساساً غياب التنظيم الثوري القائد لدينامية الانتفاضة الشعبية وموجهها، فإنها تظل مع ذلك مقيّدة في الحصيلة بما يقوم مقام هذا الغياب. أي أن الثورة لا تحصد في نهاية المطاف إلا ما كان في حوزتها من قدرات حزبية جماهيرية، وذات برنامج عمل واضح. في قراءة الباحث بلقزيز قدر من الإجابة عن الخيبات، التي أصابت تونس باكورة الثورات العربية، وما يجري فيها من استيلاء النهضة، و ما أعقبها، ومن ثم "الانقلاب الديمقراطي" عليها، والارتداد الحاصل في تونس، واعتقال زعيم قادتها، وإغلاق مقرات النهضة، وجبهة الخلاص، والتفرد بصنع القرارت المصيرية.
الانقلاب على ثورات الشباب في كل مناطقها سهل الانقلاب على الانقلابيين. وهذا ما حصل في تونس، ومصر واليمن، والسودان، وكان الاحتراب في سوريا وليبيا، والسودان حالياً، أقسى ما واجهته ثورات الشباب.
الباحث مصطفى محسن في كتابه "بيان الثورة" يقرأ الحالة القائمة في "تعاظم حالات الانقسام والتشتت في القوى والمرجعيات، وأساليب العمل، والتجاذبات الفكرية والسياسية والمذهبية و الطائفية… ومواقف اختطاف الثورة، أو تغيير مساراتها عن أهدافها: أو عسكرتها، أو تحييد آثارها أو الدفع بها نحو إعادة إنتاج نفس النخب والذهنيات والممارسات والبنى السياسية والفردية المحمومة واللاعقلانية حول "اقتسام كعكة السلطة حتى قبل أن تدخل الفرن".
وينقل عن عدة باحثين في ملف "مجلة الآداب"، منهم الدكتور الطاهر لبيب، القول: إن مساءلة الثورات العربية ما أدى منها بعض وظائفه، ومنها ما يزال يترنح علناً باحثاً عن مآل أو شط وصول، واصلاً إلى القول "إن هذه الثورات أو الانتفاضات سوف لن تتجاوز في عمقها مجرد اختلالات، أو منعطفات تاريخية عابرة ما تلبث بعد أن انعشت العقول والقلوب المنكسرة بانتشاء ربيع ثوري واهم ومختل، أن تنكشف حقيقتها لفاعلها مستقبلاً فنكتشف جميعاً أنها لم تعمل سوى تغيير نظام بنظام، وحكم بحكم، واستبداد باستبداد.
وتساؤل عالم الاجتماع الكبير لا يعني أن ثورات الربيع لم تترك آثارها العميقة في واقعنا العربي؛ فقد زلزلت عروش جبابرة متالهين، وأكدت أن الأمة العربية جسد واحد، وأن للانتكاسة والخيبات وأسبابها.
ويقيناً، فإن سقوط النظام وتواري قياداته لا يعني نهاية هذا النظام، فبُناه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأدواته المغروسة في مفاصل الدولة تظل فاعلة وحية.
بل إن الكثيرين من أدوات النظام القديم وأعداء الثورة والتغيير سرعان ما يغيرون جلدوهم، ويلتحقون بالنظام، وربما في زمن قياسي يصبحون أكثر من الثوار انفسهم، ويستطيعون تبوأ المقاعد الأولى، وربما زاودوا على صناع الثورة الحقيقيين؛ وهو ما حصل في ثورات الربيع العربي، و هو أيضا ما يحصل من تغير في صفوف بعض الثوار.
الأمر في تونس فاجع و مأساوي تختطف الثورة -أم الثورات العربية- من شبابها الذين هرموا في انتظارها.
وتتصارع الأحزاب الكاثرة؛ سواء الحاكمة أو القريبة من الحكم، أو المعارضة
يتصدر حزب النهضة المعارض المشهد، ويفوز في الانتخابات كأقوى حزب، ولكن جموحه للتفرد بالحكم، وإقصاء شباب الثورة والمستقلين، والتصارع مع أحزاب معارضة أو نقابية كانت فاعلة ومقاومة كالاتحاد العام التونسي للشغل، والحزب الديمقراطي التقدمي، والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، وحزب العمال التونسي، وشخصيات عامة، ونداء تونس قد دمّر التجربة الثورية، والأخطر من ذلك كله العجز عن تحقيق أهداف ومبادئ أهم ثورات الربيع العربي، والانغماس في الصراعات الحزبية؛ مما مهّد الطريق أمام قيس سعيد.
فوز الرئيس قيس سعيد بتلكم النسبة ٧٦٪، في انتخابات أكتوبر ٢٠١٩، يطرح الأسئلة الحارقة عن مدى برم وضيق الشعب التونسي من عشرية "النهضة"، كما أنه أيضاً تعبير عما يشبه الانتقام من الحزبية والأحزاب السياسية.
ويدلل على فشل ديمقراطية لا تأخذ بعين الاعتبار ربط حق الانتخابات وحرية الرأي والتعبير بالحق في العيش الكريم، وتوفير مستوى معيشة أفضل.
المزاج الشعبي المعارض لنهج النهضة، وعقم صراعات الأحزاب أغرى سعيد بممارسة شعبويته، وجموحه للتفرد بالسلطة، تلاعب بالدستور، وألغى النواب والقضاء، ويقوم بإغلاق مقرات حزب النهضة، وجبهة الخلاص، ويعتقل النواب، بل ورئيس النواب - زعيم حزب النهضة، راشد الغنوشي، وقيادات حزبية ونقابية، ويتصرف وكأنه "ابن علي غير متعظ بمصير ابن علي".