مقالات
جرائم الحرب في السودان
عرفت السودان عدة حروب، وبالأخص منذ الاستقلال 1956، من أخطرها الحرب في الجنوب، التي انتهت بانفصاله عام 2011، غير أن حرب الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع دقلو، هي الأكثر خطورة منذ المجاهد محمد أحمد المهدي، وحتى الحرب ضد الجنوب الممتدة لأكثر من أربعة عقود.
معروف أن البرهان ودقلو هما الذراعان القويان للرئيس عمر البشير الآتي من الجبهة القومية الإسلامية، الذي حكم السودان منذ العام 1989، وكان حسن الترابي زعيم الانقلاب.
فجّرت الجبهة الصراعات في السودان بمختلف صورها وأشكالها، وخلال حكم البشير لأكثر من ثلاثين عاماً، تغلغلت الجبهة في كل تفاصيل الجيش: كتائب الظل، قوات الدفاع الشعبي، الأمن الشعبي، الأمن الطلابي، كتائب التائبين، إضافة إلى فصائل الجيش المرتبطة بالبرهان.
ورغم تلغيم البشير للجيش بالقيادات المنتمية للجبهة، إلا أنه أسس قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو؛ لقمع الاحتجاجات في دارفور، وفي مواجهة أي تمرد ممثل في صفوف الجيش.
ارتبطت قوات الدعم السريع بقمع الاحتجاجات في درافور، وارتكاب جرائم وأعمال اغتصابات كثيرة، والعمل كمرتزقة حرب في ليبيا، واليمن، ومناطق أخرى، وهناك تقارير أممية دولية تتهمها بارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية.
في الانتفاضة السودانية، منذ العام 2013، شارك كلا الجيش والدعم السريع في قمعها، وارتكبا جرائم تبدأ ولا تنتهي؛ لعل أبشعها مذبحة تقتيل ما يزيد عن مئة وعشرين من المعتصمين أمام القيادة العسكرية في 2019.
تشارك البرهان ودقلو في مجزرة تقتيل المعتصمين أمام القيادة العامة، وهربا من العجز عن وقف الانتفاضة إلى الانقلاب على سيدهما البشير؛ المساءل عن كل الجرائم التي ارتكبها في السودان طوال ثلاثة عقود.
الاتجاهات السياسية المدنية، والأحزاب التقليدية القديمة، بصراعاتها المريرة، منذ انقلاب عبود، تتحالف مع العسكر للانقلاب، وتكون الضحية؛ فانقلاب الجبهة القومية الإسلامية، والإتيان بالبشير كان ثمرة صراع حزب الأمة، والاتحادي الديمقراطي.
أطاح الجنرالان: البرهان، ودقلو، بسيدهما البشير، وتقاسما الحكم مع فريق من نداء الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، وبقيا هما المسيطرين على الحياة السياسية، وواصلا قمع الاحتجاجات التي لم تهمد، وكدأبهما عندما عجزا عن إيقاف الاحتجاجات؛ انقلبا على حكومة عبد الله حمدوك، واعتقلا وزراءها.
تصاعدت الاحتجاجات، وانضم وزراء الحرية والتغيير (المجلس المركزي) للاحتجاجات التي اتسعت، وبدأت تهدد باقتلاع العسكر من الحكم، وتشكلت مقاومة شعبية امتدت لمختلف مناطق السودان.
أعاد قادة الجيش، والجنجويد اللعبة في التحاور مع نداء الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، واتفقا على نقاط إطارية تتضمن إبعاد العسكر عن الحكم، وتوحيد قوات الدعم السريع مع الجيش، لكنهم اختلفوا على المدة الزمنية للدمج، ومع ذلك؛ فالخلافات كانت أعمق من ذلك بكثير؛ فالدعم السريع (الجنجويد)، كانت قد فرضت سيطرتها على المدن، والمرافق العامة، والمؤسسات، وعلى جزء من الثروة، وجرى تقارب مع جماعة المجلس المركزي؛ فتفجر الصراع المزلزل في المدن السودانية، وبالأخص في العاصمة المثلثة التي تضم ثمانية عشر مليونًا.
على مدى العشرة الأسابيع الماضية، يدور القتال الضاري داخل الأحياء السكنية، وتنهب الأحياء، ويحرم المواطنون من التزود بالمواد الضرورية، ويقطع الماء والكهرباء، وتقصف الأحياء على مدى الساعة بالمدافع والأسلحة الثقيلة، وتتعرض لقصف الطيران، كما تنهب المؤسسات، والبنوك، وتعسكر مليشيات الدعم السريع في المنازل، والأحياء، والمستشفيات التي خرج معظمها عن الخدمة، ورغم التنافس على الوساطات الأمريكية والسعودية، ووساطات الاتحاد الإفريقي وبعض الزعماء، وحتى إسرائيل، إلا أنها لم تحقق النتائج المرجوة؛ لأن الهدنات المؤقتة لم يلتزم بها الطرفان اللذان يقومان بنهب الموارد الإغاثية المقدمة من الهيئات الدولية.
يموت السودانيون، ويقتلون داخل منازلهم، وفي الطرقات، ويهرب الملايين إلى دول الجوار. لكأن قادة الجيش الملغوم بمليشيات الجبهة القومية الإسلامية، ومنتجها: المؤتمر الشعبي، والوطني، وتكوينات ومسميات عديدة، والدعم السريع (الجنجويد)، ومليشيات المرتزقة المقاتلين في ليبيا، واليمن، وبلدان أفريقية أخرى، لا غاية لهم غير الخلاص من الشعب السوداني بالتقتيل، والتشريد، والتجويع، والخلاص، وإلى الأبد، من مخاطر الانتفاضات الشعبية المتواصلة منذ أكتوبر 1964.
يتقاتل قادة الجيش، وقادة الدعم السريع على التنكيل بالشعب، والخلاص من الانتفاضة والشعب، ومن ثم الاتفاق على اقتسام الثروات السودانية المنهوبة.
جانب أساسي من القتال مصدره طمع كل طرف منهما بالانفراد بالحكم، والاستيلاء على الثروة؛ شيمة إخوانهم اليمنيين، أما رفض الوساطات، وعدم الالتزام بالهدنة، فمرده وهم الحسم العسكري، أما الالتزام بالهدنة، فمعناه تراجع هذه الوهم لكل منهما، والانصياع للوساطات الكثيرة، وهو ما ستكشف عنه الأيام القادمة.
منذ انفجر الصراع، في الثاني من أبريل الماضي، مرت أكثر من عشرة أسابيع، والحصيلة لهذه الحرب المدمرة نزوح أكثر من مليونين وربع مليون مشرد، وتتحدث وكالات الأنباء عن قرابة مليون طفل مشرد، والقتلى مئات الآلاف، أما المجاعة، فتعم غالبية أبناء الشعب السوداني.
يراد لهذه الحرب الإجرامية ليس فقط تدمير السودان، وإنما خلق وضع كارثي له، وللقرن الأفريقي حسب توصيف مالك عقار- نائب رئيس مجلس السيادة، والخطر أن استمرار الحرب في السودان، وإطالة أمدها ستعم البلد القارة ذات الجوار مع سبع دول، وستمتد إلى أفريقيا القابلة للاشتعال، والموبوءة بالصراعات.
اقتتال قادة الجيش، وقادة الدعم السريع (الجنجويد) كارثة بكل المعاني بحسب توصيف عقار، والقتال بالأساس من أجل التفرد بالحكم، ونهب الثروات، وغرس العداوات والأحقاد بين شعب شديد التنوع والتعدد، والقضاء على إرثه الكبير من التآخي والتعايش والتسامح، والمأساة أن بعض الوسطاء والمصلحين ليسوا بالبعيدين عن إشعال الحرب، ودعم أطرافها.
في المقابلة التي أجراها الزميل الصحفي أنور العنسي في الـBBC مساء الـ19 من يونيو مع عدد من سياسيين ومفكرين من مصر والسودان، تحدث أنور عن مكانة السودان في قلب سبع دول جارة، وتحدث آخرون، ومنهم أستاذنا الدكتور عبد السلام نور الدين الذي قال: "إن أولئك الذين لم يفهموا التعدد؛ عجزوا بالضرورة عن إدارة الاختلافات، وهم يفكرون أن الثقافة واحدة، واللغة، والدين واحد، أما لو تعرفوا على التعددية التي هي سمة السودان؛ لاستطاعوا إدارة الحوار منذ نشأة الخريجين عام 1939، وحتى اللحظة".
يضيف المفكر عبد السلام نور الدين: "السودان بهذا البعد لم يكتمل إلا قبل مئة سنة. السودان الحديث لم تتشكل صورته بصورة نهائية إلا عام 1923، وخلق شكله بالقانون. السودان بالمفهوم الحديث، تحت يد الغازي البريطاني والمصري عمره قصير، كذلك لم تجد الحركة الوطنية، ولم يكن لها رؤية أن هذا السودان حديث، ويحتاج إلى رؤية واسعة جدا للتعامل مع القضايا المتباينة المختلفة لهذا الفضاء الواسع ذي المناخات، والشعوب المتعددة، والثقافات المتعددة. هذه أحد التحديات التي تواجهها حركة الاستقلال، وعجزت عن الاستجابة لها إيجابا.