مقالات

جماعة الفضيلة الزائفة.. وأقلام الحبر المصادرة

21/09/2025, 12:05:10

مرّ عام كامل، ومحمد المياحي لا يزال يقبع خلف قضبان السجن، حبيسًا في عتمة زنزانة ضيقة لا يدخلها سوى ضوء شحيح من نافذة متهالكة. في مثل هذا اليوم من العام الماضي، تحديدًا في صباح 20 سبتمبر، تحولت لحظة عادية من حياة أسرته إلى كابوس مدوٍّ، حين داهم منزله طقم عسكري حوثي مدجج بالسلاح، يرافقه امرأتان من جهازهم الاستخباراتي المعروف "بالزينبيات". اقتحموا بيته كما لو أنهم يطاردون قاتلًا خطيرًا أو مجرمًا هاربًا من العدالة، بينما كان كل ما في الداخل أبٌ يجلس بين أسرته وأطفاله، صحفي يحلم بمستقبل آمن وبحياة كريمة. دخلوا بطريقة لا أخلاقية، عبثوا بكل ركن في البيت، صادروا كل شيء، حتى أبسط التفاصيل التي تحمل رمزية شخصية كأقلام الحبر وأوراقه، لم يتركوها. لقد كان المشهد أشبه بعملية اغتيال صامتة للكرامة، واعتداء صارخ على حرمة المنازل وحرية الإنسان، وكأنهم يحاولون أيضًا قتل كلماته ومحو أثره من الحياة.

لقد كان سبتمبر الماضي شبحًا يخيم على البلاد، يطرق الأبواب بلا استئذان، يزرع الخوف في الصدور، ويترك الناس بين خيارين: الصمت أو الاعتقال. لم ينجُ أحد من المطاردة، الشباب جميعهم صاروا أهدافًا سهلة، يتخطفهم المسلحون من الأزقة والجامعات والمقاهي. كل من اعتُقل خرج بعد أسابيع أو أشهر منهكًا، لا لشيء إلا بعد أن دفعت أسرته مبالغ مالية ضخمة كفدية، أو وقعت ضمانات مهينة تُشعرهم بالذل والخذلان. لم يكن الاعتقال مرتبطًا بجريمة أو تهمة، لقد كان مجرد منشور على فيسبوك، أو كلمة تضامن مع محمد المياحي كانت كافية ليجد المرء نفسه في غياهب السجون. أما أنا، فقد كنت أكتب والتهديدات تصلني تباعًا، أطقم حوثية تجوب قريتي ليلًا، تطرق الأبواب، تبحث عني كما يبحث الصياد عن فريسة، تروّع أمي، ترهب جيراني، وتثير الفزع في قلوب شباب القرية الذين اعتقل كثير منهم، بعضهم لم يعد إلا بعد شهر وأكثر، منهكين، مكسورين، كأنهم خرجوا من معركة مع الموت.

غادرت صنعاء التي تحولت إلى قيد ثقيل، مدينة غريبة تسكنها الأطقم والسجون بدلًا من الأحلام. تركت خلفي كلية الإعلام والدراسة التي أحببتها، لأن البقاء هناك يعني أن أعيش تحت رقابة دائمة، ومطاردة لا تنتهي. اخترت أن أرحل إلى تعز، المدينة التي تتنفس الحرية رغم الجراح، حيث يمكن للكلمة أن تُكتب دون أن يداهمك جندي في منتصف الليل. كان ولادة جديدة، انتقالًا من زنزانة كبيرة إلى فضاء أرحب، من موت بطيء إلى محاولة للبقاء حيًّا. لم يعد يهمني أن أُحرم من العودة إلى قريتي، فقد صارت القرية بالنسبة لي قيدًا، مكانًا خانقًا لا يصلح للحياة، وكل أرض لا تمنح الإنسان حريته هي سجنًا. جئت إلى تعز كما جاء زيد الموشكي قديمًا، حين بلغه أن الإمام هدم منزله في ذمار، فرد عليه: "لله درك فارسًا معوارا، طعن السقوف ونازل الأحجارا." تلك الروح اللامبالية بالهدم، الرافضة للانكسار، هي ما حملني إلى هنا، أبحث عن حرية أكبر من البيت، وأوسع من الجغرافيا.

قبل أسبوع جاءني خبر جديد زاد المشهد قسوة: المليشيا رفعت قضية ضدي في المحكمة. هاتفتني أمي بصوت متهدج، صوت يختلط فيه الحزن بالقلق، تخشى أن يطالني ما طال محمد أو غيره. أخبرتها أنني في تعز، حيث لا سيّد إلا الشعب، حيث لا إمام يفرض سطوته، ولا طاغية يقرر تفاصيل حياتك. قلت لها: هنا أتنفس الحرية كما لو أنني وُلدت من جديد، ولن أعود إلى قريتي إلا يوم النصر، يوم تتحرر البلاد من الطغيان. ما عدت أقبل أن أعيش في مكان يطلب مني أن أنحني تحت سوط سيد، أو أن أصمت على ظلم جاثم على صدور الناس.

هذه الجماعة التي لا تكف عن التشدق بالأخلاق والقيم الإسلامية، وتستثمر خطابها الديني بكل مناسبة لتظهر بمظهر الوصي على الفضيلة، ليست سوى نقيض لكل ما تدّعيه. يرفعون شعارات طهر زائف، بينما يمارسون أقذر أشكال القمع، يبررون بالآيات ما يرتكبونه من جرائم، ويجعلون من الدين مطية لإخضاع الناس وإذلالهم. لقد حولوا البلاد إلى مسرح كبير للنفاق، يرفعون فيه راية الفضيلة، بينما يطعنون القيم في الصميم، ويهدمون كل ما له علاقة بالكرامة الإنسانية.

مقالات

جريمة المشهري والانفلات الأمني في تعز: الألوية العسكرية بين القدرة على الحسم وغياب الإرادة

تمثل جريمة اغتيال مدير عام صندوق النظافة والتحسين في تعز، الشهيدة أفتهان المشهري، نقطة تحول خطيرة في مسار الاستقرار الأمني في المدينة. هذه الجريمة ليست حادثة فردية معزولة، بل هي جزء من سلسلة أعمال عنف وانفلات مسلح واغتيالات متكررة لشخصيات وضباط لهم وزنهم في محافظة تعز، وهي تستهدف مؤسسات الدولة والمواطنين، وتتطلب مواجهة حاسمة وفورية.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.